أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

نساء من قونية.. ميخائيل سعد

"قونية".. حديقة العدالة - وكالات

كنا نتجول في المدينة المعاصرة، بحثا عن التاريخ فيها، وكدنا ننسى أن مدينة استمرت في الحياة سبعة آلاف عام يستحق شعبها التحية، لأنه لولا قدرة هذا الشعب على التكيف وامتصاص موجات الغزاة المتعاقبة وهضمها، وإعادة "تثقيف من بقي منهم"، لما استمرت الحياة في المدينة طوال هذه القرون منذ أيام الحثيين وحتى يومنا هذا.

أثناء بحثنا عن الأوابد التاريخية والمكتبات التي تحتضن المخطوطات القديمة، وخاصة ما يتعلق منها "بالإسلام الصوفي"، وهو موضوع صديقي ناصر، لفت انتباهي بعض التعبيرات الإسلامية المعاصرة، التي امتزج فيها القديم بالحديث، السياسي بالديني، التمرد بالخضوع، الحداثة بالتقليد، حتى غدا من الصعوبة فرز المكونات عن بعضها، إلا إذا قام الراغب بذلك بعملية تكسير للوحدة التي تتجلى فيها هذه التعبيرات الإسلامية، وهذا ما سيعطي صورة مشوهة عن الحياة.

كان مما استوقفني أربعة نماذج نسائية، ثلاثة منها على علاقة بالحجاب، بينما الأخيرة فلها علاقة بتحدي الجوع. في أحد أحياء قونية، الذي لا أعرف مدى بعده عن مركز المدينة، صادفنا امرأة خمسينية محجبة تقود دراجة هوائية مزودة بسلة في مقدمتها لوضع المشتريات فيها. 

كنا نشتري زجاجة ماء من احد الحوانيت في الحي، عندما توقفت الدراجة قربنا، فركنتها السيدة عند الباب ودخلت تسأل عن شيء تريد شراءه، ولما لم تجد ما تبغيه، اعتلت من جديد دراجتها بمهارة من اعتاد على فعل هذا الأمر عدة مرات في اليوم، ولسنوات طويلة. 

دفعني فضولي، والصورة المسبقة في ذهني، عن أن الحجاب قد يكون من العناصر التي تعزل المرأة وتمنعها عن المشاركة في الحياة العامة، لمراقبة المرأة ودراجتها، وهي تنتقل من حانوت إلى آخر بحثا عن حاجاتها، ربما لتحضير طعام العشاء لزوجها وأولادها، فمن المعروف أن الأتراك في المدن الكبرى يتناولون وجبة الغداء في المطاعم بسبب يوم العمل الطويل، وقد يكون هذا الأمر، أي نمط العمل، من أسباب انتشار المطاعم في كل الأحياء في المدن، وليس فقط تلبية لحاجات السواح الذين يزورون تركيا سنويا بالملايين.

النموذج الثاني، صبية عشرينية لم يمنعها حجابها من ارتداء بنطلون وقيادة دراجة نارية متوسطة الحجم في شوارع قونية، شاهدتها عندما كنت أقف على الإشارة الضوئية، أحاول الانتقال إلى الطرف الآخر من الشارع، عندما توقف سيل السيارات مع اشتعال الضوء الأحمر، تجاوزت الشارع وعيني على الفتاة "وموتورها"، ثم توقفت على الرصيف لأرى الفتاة وهي تحاول تجاوز ازدحام الشارع بالسيارات، بالعبور بمهارة بين تلك السيارات، مثل أي شاب مونتريالي دون حجاب، وجد نفسه مع موتوره في وقت الازدحام في المدينة.

أما النموذج الثالث، الذي يضيء بعض جوانب المشهد النسائي التركي بجانبيه السلبي والإيجابي، فقد صادفناه في إحدى مكتبات قونية للمخطوطات.

كنت وناصر ضميرية، صديقي في رحلة قونية، نكاد نفقد الأمل في العثور على المكتبة المطلوبة لولا مبادرة شاب تركي بمساعدتنا، والمساعدة بالمناسبة هي عادة تركية، فرغم عبوس الوجوه التي توحي بكره الأجانب، لا يتردد التركي في ترك عمله للاهتمام بإنسان يطلب المساعدة، فقد قام الشاب بالاتصال بأكثر من شخص إلى أن توصل إلى معرفة مكان المكتبة وساعات العمل فيها. 

قال لنا إن علينا الإسراع، لأن فترة الغداء تبدأ من الظهر وحتى الواحدة والنصف. وصلنا قبل موعد التوقف عن العمل بدقائق، وبقينا مع الموظفات اللواتي كن يساعدن ناصر إلى ما بعد الواحدة. 

فقد أصرت العاملات على متابعة البحث في فترة الغداء، خدمة لنا، ولما فقد ناصر الأمل في العثور على المخطوطة التي يبحث عنها، تركنا المكتبة مع العاملات. 

بقيت بصحبتنا واحدة منهن تعمل كمتطوعة، وقد استجابت لدعوتنا إلى الغداء، فكان أول أسئلتي لها عن موقف أهلها لو أنهم رأوا ابنتهم المحجبة تتغدى مع غريبين في مطعم، قالت إن الأمر سيزعجهم قليلا، ولكنهم يعرفون أنني أعمل في مكتبة يرتادها الأجانب ووجودي معهم أحيانا هو جزء من عملي. 

وصلت بالمصادفة بأسئلتي إلى المأساة التي طبعت حياة الكثير من التركيات المحجبات، اللواتي منعن من دخول الجامعات والعمل في مؤسسات الدولة بسبب الحجاب، وكانت هذه الصبية الأربعينية منهن، وهي تحاول الآن، تعويض ما فاتها من معرفة جامعية.

وقد عبرت الباحثة التركية شناي أوزدن، في محاضرتها، الأسبوع الماضي في هامش (البيت السوري)، في اسطنبول، عن "الأطوار المختلفة للحركة النسوية في السياق السياسي التركي، بوصف هذه الحركة مثالا دراسيا عن العلاقة القلقة بين الحركات الاجتماعية المتنوعة وبين الدولة في تركيا. 

منذ قيام الجمهورية التركية، عرضت الإيديولوجية الجمهورية نفسها كــ"منقذ" للنساء التركيات من قيود الثقافة الإسلامية و"الشرقية" "المتخلفة"، وعلى هذ النحو جرى وضع اليد على الحركة النسوية من قبل مؤسسات الدولة. 

هذه المقاربة الفوقية لحقوق النساء جرى تحديها من قبل النسويات اللاتي كن جزءا من الحركات اليسارية/ الماركسية قبل ثمانينات القرن العشرين"، ومن النساء المسلمات اللواتي رفضن الخضوع لقهر الدولة، وهذه الفتاة خير نموذج عن المسلمات اللواتي رفض نزع الحجاب من أجل الدخول إلى الجامعات أو العمل في وظائف حكومية، وكان لا بد من الانتظار حتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم حتى يتم إلغاء ذلك القانون الجائر. 

النموذج الرابع والأخير، كان سيدة تركية في العشرينات، نحيفة الجسد، قوية البنية، رشيقة الحركات، يتصبب العرق من جبينها وهي تجر كيسا بلاستيكيا عملاقا تجمع به ما تجده في قمامة المدينة من مواد قابلة لإعادة التدوير (رسيكلاج)، من كرتون وبلاستيك وورق وغير ذلك. 

لم تكن السيدة تضع حجابا، فطبيعة عملها لا يسمح لها بالتفكير برفاهية الحجاب، خاصة وأنها تحمل معها في كيسها العملاق، فوق ما انتزعته من الزبالة من كرتون، ابنتها الصغيرة النائمة. 

هي لا تجلس في الشارع تستعطي الناس وتثير شفقة المارة وابنتها أمامها كي يرمي لها بعضهم ببعض النقود، كما تغعل بعض السوريات اللواتي قذفت بهن الحرب إلى شوارع اسطنبول، وإنما تحارب بعملها الصعب هذا، فقرها، وربما زوجها الذي تهرب من واجباته، فرأيت أن حريتها في محاربة الجوع بهذه الطريقة، وربما في القول إلى حكومة حزب العدالة: إن هناك في تركيا من هو فقير وإنكم لم تغعلوا ما يجب عمله لإلغاء الفقر الأسود الذي يحجب عن عيونكم الواقع الحقيقي للنساء الفقراء.

غادرت قونية وفي نفسي أن أزور مدينتين تاريخيتين قربها، هما اسباراطة وطروارة للاطمئنان على أحوال "هيلين" التي تسبب جمالها في تدمير المدينتين، وأرى إذا كانت أحوالها التركية بخير، وأن الساسة الأتراك سيجدون حلا لمشكلة النساء والفقر.

(183)    هل أعجبتك المقالة (191)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي