أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

معك ليرة... عمو؟ .. ميخائيل سعد

طفلة سورية في مخيم للاجئين بتركيا - أرشيف

قال لي ناصر، وكنا نحاول اكتشاف مدينة قونية التركية معا، والتي تشير المعلومات المتوفرة إلى أنها من "القرى" الأولى في العالم: انظر إلى ذلك الطرف، يبدو أننا وقعنا على كنيسة، في شارع خلفي من شوارع المدينة. كانت الكنيسة "الحديثة"، التي تم بناؤها في بداية القرن الماضي، مغلقة الأبواب، وقد فهمنا من الورقة الملصقة على الجدار الأمامي الذي يفصله عنا وعن الشارع سور حديدي، أنها تفتح في أوقات الصلوات فقط. 

لم نحاول أن نعرف بعد ذلك، بل إننا لم نطرح على أنفسنا السؤال: هل يوجد مسيحيون في مدينة قونية، وما هو عددهم الآن؟ فقد كنا مشغولين بالإرث المعماري الإسلامي عامة، والسلجوقي منه خاصة، انسجاما مع الفكرة الأساسية لزيارتنا إلى المدينة ألا وهي زيارة "مولانا جلال الدين الرومي" وللتعرف على قواعده الأربعين في العشق، وربما تلمسها في حياة الناس، وكيف يمارس أهل قونية تعاليم الصوفي الكبير..
قال ناصر، لافتا انتباهي مرة أخرى: انظر إلى حجم الصليبين الصغيرين المرفوعين على القبتين العاليتين، اللتين تحملان الأجراس عادة، وإلى الصليب الأكبر الموجود على القبة الصغيرة؟ قلت له: هل تعتقد أن الأمر مقصود؟التقطت بعض الصور للكنيسة، وكان في الطرف الآخر من الشارع مسجد سلجوقي، مأذنته الجميلة محجوبة بأغصان شجرة ضخمة، فحاولت الالتفاف كي أستطيع تصويرها كاملة. 

وفي أثناء ذلك سمعت صوتا طفوليا يقول: عم تصور؟ التفت لأرى طفلتين رائعتي الجمال تقفان خلفي والابتسامة تسبق نظراتهما الوديعة والواثقة والفضولية، قلت للكبيرة: هل أنت من تكلم العربية؟ قالت: نعم عمو.سألتهما: من أي مدينة سورية انتما؟ قالت الكبرى: من حلب.سألتني الصغرى: وأنت عمو، من وين؟ قلت لهما ضاحكا: من حمص، أليس هذا واضحا على وجهي؟ابتسمتا بخجل، وقالت الصغرى: كانت معلمتي في حلب حمصية، وكانت حبابة جدا، وكنت أحبها.

كانت حقيبتا المدرسة تشيران إلى أنهما كانتا في المدرسة، ومع ذلك سألت: هل كنتما في المدرسة؟أجابتا معا: نعم. قلت: ماذا تدرسان كل يوم؟ قالت الكبرى: نتعلم اللغة التركية، والحساب والقرآن.

سألت من جديد: في أي صف أنتما؟ قالت الصغرى: أنا بالصف الثالث وأختي بالرابع، بس أنا شاطرة مثلها.

كان بودي أن أضمهما إلى صدري، ولكنني قاومت رغبتي خوفا من المجتمع المحيط، فنحن في وسط السوق التجاري الفرعي، وملامحي لا تدل على القرابة لهما، حتى على افتراض أنني جدهما، فقد خفت أن يقرأ أحدهم حركة الحب هذه على أنها خرق للأعراف الاجتماعية، ولا تنسجم مع التقاليد، واكتفيت بالأسئلة التي قدّرت أن الفتاتين تستطيعان الإجابة عليها.

تايعت أسئلتي الفضولية، يشجعني على ذلك الرغبة الواضحة عند الفتاتين في الكلام باللهجة الحلبية: منذ متى وأنتم هنا؟ قالت الكبرى: يمكن منذ ستة أشهر، كان بيتنا في الأنصاري جميلا وكبيرا، إلى أن وقع برميل من السماء فدمر قسما منه، وماتت جدتي، فحملنا أبي إلى هنا.

سألتهما: شو بيشتغل أبوكم؟ قالت الكبيرة بلهجتها الحلبية: "بيرك في البيت".

وأمك؟ قالت: "إذا البابا بيرك في البيت كمان الماما". سألتُ: كيف تعيشون؟قالت: أيام، الجيران بيعطوا لأمي أكل، وخالي يرسل لنا مالا أحيانا. قلت لهما، والغصة في قلبي: انتبها وأنتما في الشارع، لا تقفان مع الكبار، وعودا فور الخروج من المدرسة إلى البيت. 

حاولت متابعة السير للحاق بصديقي الذي سبقني، ولكن استوقفتني محاولة الفتاة الكبيرة الكلام، فقلت لها: قولي يا صغيرتي، ماذا تريدين؟ عمو ...ممكن، وغصت الفتاة، وتوقفت عن الكلام. قلت لها: قولي يا صغيرتي. قالت الصغيرة: عمو معك ليرة؟ وأدركت أن مولانا جلال الدين الرومي، مع كل قوة العشق الإلهي وقواعده، لا يستطيع أن يكون حاضرا بين الأطفال السوريين المنتشرين في شوارع العالم وعلى أرصفتها ملبيا حاجاتهم!

(136)    هل أعجبتك المقالة (140)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي