لم أعهد خوفاً في قلوب الزعماء العرب يوماً على اللغة العربية، أو احتراماً لها، أو تعزيزاً وتبجيلاً، بيد أنني لا أنكر الاهتمام الملفت للنظر الذي أولاه الرئيس الراحل حافظ الأسد لهذه اللغة واهتمامه بها. حيث لم ينس التوجيه بتعليم هذه اللغة على أصولها وإعطائها مكانتها الصحيحة. ويعرف القاصي والداني أن سورية من أوائل الدول العربية التي اهتمت بتعريب التدريس في مدارسها كما في جامعاتها، وهذا شيء يحسب للقيادة السورية لا يختلف في ذلك اثنان.
صحيح أن الواقع يختلف عن النظرية وصحيح أيضاً، أن كثيراً من السوريين، وأنا لست أفضل منهم، لا يتقنون هذه اللغة، ولكن الصحيح أيضاً، أن دمشق رفدت اللغة العربية بعلماء لا حصر لهم وأصبحت قبلة الباحثين عن علوم اللغة وأسرارها.
كان خطاب القسم من الأهمية بمكان، بحيث جعلنا نتابعه كلمة بكلمة، خاصة وأن الرئيس الشاب، كان شفافاً في حديثه وأقرب إلى المواطن منه إلى الزعيم، ولكنني أعترف أنني توقفت لدقائق عديدة مشدوهاً عندما بدأ الأسد كلامه عن العربية رابطاً بينها وبين الشعور القومي وبينها وبين الدين، وقد صدق الرئيس في ذلك وأحسن.
ففي ضعف اللغة العربية في النفوس ضعف للانتماء القومي والشعور الديني. وتعمل اليوم جهات عديدة على إضعاف هذه اللغة وإبعاد الناس عنها وتجهيل أهلها بها.
صحيح أن الحرب على الإسلام والعروبة لا تتوقف عند حدود العربية كلغة، ولكن العدو يدرك أن ثقافة هذه الأمة وتاريخها كتب باللغة العربية، فلو ابتعد الناس عن العربية، لقرءوا تاريخنا باللغات الأجنبية التي تحمل في طياتها تشويهاً وكذباً لتاريخ الأمة.
وهذا هو بيت القصيد، فليس أحسن للعدو من أن يقرأ العرب تاريخهم ودينهم بلغة غير العربية، فيزيدون وينقصون في ذلك التاريخ، فيصدق الناس البهتان الذي لا يتوقف عند الحديث عن ماضي الأمة العربية والإسلامية.
وقد بلغ حال اللغة العربية اليوم واقعاً مزرياً بسبب إهمال أهلها، وابتعادهم عنها وعدم تذوقهم حلاوتها، وبالتالي عدم إحساسهم بها. وقد بلغ الطمي أن الزعماء العرب مثلاً لا يتقنون لغة شعوبهم والتاريخ الذي يمثلونه، فكل رئيس يلقي كلمته، إلا فيما ندر، باللهجة المحلية في بلاده فيتفنن في رفع المنصوب وجر المرفوع، وخلط الفصيحة بالعامية، وتكسير اللغة ودهسها وتمزيقها، وهو في ذلك جاهل بما يفعل، أو أنه خادم لعدوه وكلا الأمرين مصيبة وعار عليه وعلى كلماته.
بل إن السيد عمرو موسى الأمين العام للجامعة المسماة عربية، يجري مقابلاته باللهجة المصرية، فيبدو ممثلاً لمصر وليس للعرب، ويصعب على مثلي فهم( إزيك، و إحنا أُلنا). أ فلا يكون مستهجناً أن يكون ممثل الدول الناطقة بالعربية ضعيفاً في لغة تلك البلاد؟!!.
وإن كانت الكلمات التي ذكرتها في الأعلى صعبة الفهم، فما بالك بكلمة( البتاع ده) التي أطلقها زعيم أكبر دولة عربية عند حديثه عن حزب الله اللبناني. وتعالوا نذهب أبعد من ذلك.
فبحكم عملي التقيت بطلبة من بعض بلاد المغرب العربي فوجدتهم يصرّفون الفعل الفرنسي ياللغة العربية فلكي يقول أحدهم أزعج يقول ( ديرانجى) وهي الفعل الفرنسي( déranger) مصرفاً بالعربية وأخبروني أنهم يقولون ذلك حتى في دروس اللغة العربية نفسها في المدارس.
وإذا كان هذا حال الشعوب في تعلقهم بلغتهم، فلأن قادتهم لا يهتمون أصلاً باللغة العربية ولا يعطونها الأولوية المناسبة، وأعتقد أن ذلك مقصود لعينه، فاللغة العربية عامل وحدة بين الشعوب، ولهذا يبذل القادة جهوداً لخنقها في سبيل خنق الوحدة نفسها، فهم كما يحاربون مد الجسور فيما بينهم، ويمنعون إنشاء الطرقات ويجابهون التكتل الاقتصادي لأنهم يخافون من وحدة عربية، يجابهون أيضاً هذه اللغة التي لا تقل خطراً عليهم من الوحدة نفسها. وهم يحاربون اللغة العربية في سبيل التضييق على المسلمين في دينهم، إذ لا يريدون للأمة الإسلامية أن تعود إلى تاريخها فتفهم إسراره وإعلانه، ذلك لأن هؤلاء الحكام يخدمون غير شعوبهم وينفذون سياسة لا تخدم إلا أعدائهم.
أذكر عندما كنت صغيراً، وكنت جالساً أمام الشاشة، تابعت خبراً عن انعقاد مؤتمر وزراء الإعلام العرب، وقد قام السيد رئيس المؤتمر آنذاك بافتتاح الجلسة، وألقى خطاباً مهيباً بدأه بقول " هذا أوان الشدَ فاشتدّي زيم" وختم هذا البيت بقوله " صدق الله العظيم. فصاحبنا ولا حول ولا قوة إلا بالله يظن ذلك البيت قرآناً.
ومرة أخرى، كنت أستمع إلى نقل حي لمؤتمر حول الشعر في إحدى البلاد العربية، وللتذكير بتاريخ اللغة وجمالها، قام طفل صغير بإلقاء القصيدة البديعة، "صوت صفير البلبل" للأصمعي رحمه الله، وما إن انتهى التلميذ من القصيدة حتى اشتعلت المدرجات بالتصفيق، ثم تحدث المشرف على المؤتمر وهو وزير ذو صولة وجولة في بلاده ليقول وبالحرف" ما شا الله، جميلة اللهجة العامية بالقصايد". يظن المسكين أن الأصمعي كان أمياً مثله.
وأستطيع أن أذكر عشرات الحالات والقصص المشابهة التي يندى لها الجبين، والتي تذكرنا بالفضائح التي جلبها لنا زعمائنا على الصعد كلها.
اليوم، الشباب العربي يسمع أغنيات "أبوس الواوا"، و"وحدة ونص"، بعد أن كان يستمع لأبي فراس، كان الشاب العربي يكتب ملاحظاته على قصيدة في مستوى رباعيات عمر الخيام، واليوم لا يميز شبابنا فيما إذا كانت "بح خلاص فصيحة أم لا". ليس فحسب، بل دخلت الكلمات الأجنبية في لغتنا، وأصبح الشباب يفتخرون بقولها حشواً في حديثهم، ولقد أحسن حبيبنا ياسر العظمة إذ استهزأ من هؤلاء فقال" إذا أنت ما سكرفت في اللف عاشقاً*** رمنت حزين الهار في إفري محفل".واليوم لا تكف المرئيات العربية عن تكريس اللهجات العامية، عن سابق إصرار وترصد وبتوجيهات صادرة عن أعلى القيادات السياسية والسبب واضح، طأطأة الرأس لغير الله تعالى.
ذكر ابن الجوزي، أن ولداً رأى سارقين يسرقان متاعاً لأحد التجار، فذهب الأب بابنه إلى القاضي، فطلب الأخير من الولد أن يقص عليه ما رأى فقال الولد رأيت سارقان، أي رفع المنصوب، فخرج الأب مهرولاً في الطرقات باكياً يقول يا ويلي فضحني ولدي!!.
ألا تستحق هذه القصة الصغيرة أن يقف عندها حكامنا ورؤساء تحرير صحفنا، خاصة الإلكترونية منها، ففي سورية مثلاً تتنافس الصحف الإلكترونية على عدد الأخطاء التي تتضمنها، ونعرف بعض الصحفيين من أخطائهم اللغوية من السطر الأول قبل أن نقرأ ما كتبوا، وهي أخطاء ليست عادية، بل من فئة "حوالي عشرون" و"جاءني عشرين"، و"ثلاث أبناء"، و"قام مشجعي الفريق". ومع ذلك هم رؤساء تحرير يكتبون للناس ولا يعلمون أنهم يهدمون هذه اللغة ويخمدون ألقها وتوهجها. ولا شك أن هؤلاء خطر على تاريخ الأمة كله، فهم يساهمون بسحق اللغة العربية وإضعافها وهذا مكمن المصيبة.
لذلك لا بد لي أن أثمن عالياً تذكير الرئيس الأسد باللغة العربية واهتمامه به، وربطها بالقومية والتاريخ والدين، وإني، لا شك، أشد على يده في هذا مذكراً إياه أن هذه اللغة، كما الثقافة بل كما الشعب نفسه أمانة بين يديه، لا مناص من سقاية بذورها في المدارس والتركيز عليها في الجامعات ووسائل الإعلام، وتلك لعمري مندوحة سيذكرها لك التاريخ وتقدرها الأجيال.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية