أكتب هذه المادة وأنا في السماء فعلا، يعني أنني كنت في الطائرة المتجهة من مونتريال إلى اسطنبول، ولكنها السماء المرتبطة بالأرض. فقد كنت أقرأ كتاب "الشمس المنتصرة، دراسة آثار الشاعر الإسلامي الكبير جلال الدين الرومي" للباحثة الألمانية الكبيرة آنا-ماري شيمل، وكان في الكتاب الكثير من الأفكار التي تستحق التأمل أكثر من النقطة التي أثارت اهتمامي واستوقفتني في فكر جلال الدين الرومي، ألا وهي فكرته عن التعددية الاجتماعية والدينية، التي آمن بها ومارسها طول حياته، ولكن الظروف التي نعيشها في وطننا السوري هي التي أملت علي التوقف والإشارة إلى فكرة التعددية.
كان "مولانا" يعرف مثل غيره، أو أكثر من غيره من سكان "قونية" أن هذه المنطقة مأهولة منذ آلاف السنين؛ فقد سكنها أهل "ليديا" في القرن السادس قبل الميلاد، والفرس في القرن الرابع قبل الميلاد أيضا، والأمويون في عهد معاوية، وكانت قونية إحدى المحافظات البيزنطية حتى القرن العاشر الميلادي، ولا يزال فيها من المزارات الهامة، حتى الآن، "ينبوع أفلاطون" وأمامه نُصب تمثل الآلهة التي تحمل السماء، ومن بينها إله الشمس، التي تمثل بمجملها ارتباط السماء بالأرض.
وفي وقت متزامن تقريبا لبداية الحروب الصليبية أصبحت قونية عاصمة الأتراك السلاجقة، وبقيت كذلك إلى أن سيطر عليها العثمانيون عام 1467، واستمر على هذا الوضع حتى يومنا هذا.
كما أن كاتب "المثنوي" كان علي اطلاع، من خلال احتكاكه اليومي بالناس، على المكونات الدينية لسكان المدينة من مسلمين ومسيحيين ويهود وربما وثنيين أيضا، واحترامه للجميع عبر الاطلاع على معتقداتهم وكتبهم الدينية وحرصه الدائم على هذا التنوع في الواقع الذي يغني الحياة في قونية، والذي انعكس في طريقة تفكيره أيضا وفي أشعاره الصوفية.
وعندما مات شاركت الطوائف في جنازته حسب طقوسها الدينية، فكان المسيحيون في الجنازة يرددون "كان عيسانا" واليهود يرددون "كان موسانا."
ويمكن القول باختصار، إنه في كل زاوية من زوايا العالم الإسلامي، تقريبا، وُجد رجال دين كبار قادوا الناس في ظلام الكوارث السياسية والاقتصادية نحو عالم لم يهدمه التغيير، كاشفين لهم سر العشق الإلهي القاسي، ومعلمين إياهم أن إرادة الله المجهولة وحبه يمكن أن يتجليا في الشدة والابتلاء أكثر منه في السعادة والرخاء"، هذه هي خلاصة، وإنه للخروج من هذه التجارب يجب نبذ التعصب واحترام التعددية "فالمشكلة ليست في التعدد والتنوع، فالله تعالى: "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"، وفي آيات أخرى يشير إلى أن التعدد والتنوع هو "آية من آيات الله، المشكلة هي في عدم قبول التعدد والاختلاف على أنه أمر طبيعي، وسعي البعض لإزالة الأفكار المخالفة، بل وحتى أصحابها"، على ما كتب الصديق ناصر ضميرية في حوار مع أحدهم مؤخرا.
رغم حضور السماء علي لسان كل اللاعبيين في الأزمة السورية من رجال دين وسياسيين وأمراء حرب، إلا أن سلوكهم العملي يدل على أنهم يريدون فصل السماء عن الأرض عبر تكريس الكراهية وممارسة المزيد من القتل وطرد الآخر المختلف، سواء كان الاختلاف في الدين أو المذهب أو الفكر.
وتفسير ذلك أنهم في الواقع يريدون امتلاك الأرض وخيراتها لأنفسهم، والتنازل عن الجنة وما فيها من حوريات وأنهار، إلى البسطاء من الناس، الذين هدهم الجوع، وأمات القتل أحبابهم، وهدمت آلات الأسد الأمكنة التي كانت تحويهم، وربما نكون بحاجة إلى الحب الصوفي أو الأفلاطوني على طريقة مولانا جلال الدين الرومي كي نخرج من هذا النفق المظلم.
أخيرا، وصلنا أنا والصديق ناصر ضميرية إلى مدينة قونية، عاصمة السلجوقيين، ومقر مولانا جلال الدين الرومي.
ورغم المعنى التاريخي الذي قصدته بذكر قونية كعاصمة للأتراك السلاجقة، إلا أن هدف الزيارة المركزي هو زيارة قبر جلال الدين الرومي لرمزيته الكبيرة في عالم الصوفية الإسلامية؛ صوفية الحب والعشق الإلهي، وزرنا القبر الكبير وقرأنا الفاتحة على روح الصوفي الإسلامي الذي أغنى الإسلام والبشرية بفكرة العشق الإلهي الذي عبر عنه بما يعرفه من تراث الحثيين والإغريق والرومان والمسيحيين الذين تركوه في ميراثهم الروحي، وعلي رأس كل ذلك وفي مقدمته الإرث الروحي الإسلامي العظيم. فقد يكون الحب هو آخر حل للأزمة السورية التي قادتها الأحقاد السلطوية إلى حافة الموت، لقد جرب السوريون الكثير من أنواع الأسلحة، فلماذا لا نجرب الحب؟؟!!
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية