لهذا الجاكيت الذي أرتديه أمامكم قصةٌ. في شتاء عام 2002 دُعيتْ نقابةُ أطباء سورية إلى حضور مؤتمر أطباء الأذن والأنف والحنجرة العراقيين في بغداد. وكان عددنا نحن السوريين كبيراً. ليس كلنا بالطبع ذاهبون بدافع علمي. أبداً. أكثرنا بدافع رؤية العراق بعد قطيعة دهرية وبعد أن مرّ العراقُ برحلة أوليسية رهيبة منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
دخلتُ أحدَ مَحلات بيع "جاكيتات" الجلد، وبعد الترحيب المُبالَغ به لأنني سوريٌ، وبعد كأس الشاي العراقي الثقيل والحلو وبالكأس العراقية المميزة ذات الخصر، بدأت أتجوّل بعيني بحثاً عن جاكيت يعجبني. سطا نظري على جاكيت أسرني على الفور. لاحظ البائع اهتمامي. فقلتُ في نفسي: أهَهْ لقطتَك البائع ياغبي وسيرفع السعر أضعافا.
وفعلاً راح البائع يطنب في مدح الجاكيت والمدة التي تقْتضيها صناعته ونوع الجلد ووو... وأشار دون إشارة. حقاً دون إشارة! قال انظرْ إلى الحائط على يمينك. وإذا بصدام حسين يلبس ذات الجاكيت فوق بنطال رمادي للصيد و"شابوو" للصيد وسيجار كوبي وينظر خليّ البال بعيداً.
دارت الأفكارُ سريعة في رأسي، وقررتُ دون إبطاء أنني سأشتري هذا الجاكيت مهما غلا. ارتديت الجاكيت ونظرتُ في المرآة. كان مناسباً تماماً. قلتُ يلزمني سيجار كوبي وشابوو فرنسي، وأشرتُ برأسي ويدي إشارة واضحةً إلى صدام. قال الرجل غاضباً وبصوت خفيض نحن في العراق لا نتكلّم عن مقام الرئاسة بهذه الخفّة. استفزّتني كلمة خِفّة، وللحظة مر ببالي أنني لن أشتري الجاكيت نكايةً. لكنني راجعتُ نفسي وقلت همساً في داخلي أليسَ الحال من بعضه؟ ألم يكن حافظ يرعبنا إلى درجة أن البعض لا يستطيع التحديق بتماثيله؟ ومع ذلك اندفعت بالقول هل تعرف أن صدام حسين قريبي. صحح البائع مبهوتاً السيد الرئيس صدام. كررتُ بعده السيد الرئيس صدام هو قريبي، أنا وهو من نفس العشيرة ومن نفس الفخذ.
الرجل واقف مذهول لا يعرف ما يقول. وأنا أستفيض في الشرح. أظنه كان يفضل لو أنه أعطاني الجاكيت مجاناً وتخلص منّي على الفور. أخرجت سيجارة ورحت أدخن وأنظر في المرآة وأصنع قوسين حول رأسي بيدي، ثم أنظر إلى صورة الرئيس التي تظهره كما لو أنه "خليّ البال!". كنتُ بالتأكيد خائفاً ومرعوباً مثله، وأرغب في أعماقي أن أكون خالي البال في جاكيت جلد وشابوو وسيجار. هو كان العالمُ يتحضر ليضربه، وأنا تنتظرني عند العودة الأسئلةُ. لمَ سافرتَ إلى بغداد؟ ولماذا بهذا الوقت؟ ولا تكذب علينا فالمؤتمر ما هو إلا حجة. وبالأخصّ أنهم وفي لعبة ربيع دمشق ولعبة 2000- 2002 أراداوا أن يدخلوا المعارضين إلى السجن عبر محاكم "مدنية!" و "بالقانون!" وكنتُ أنتظر أن يحيلني أمن الدولة بالرقة إلى محكمة "مدنية" للنظر بقضية شتمي لرئيس الجمهورية. يعني الجماعة يريدون سجني من سنتين إلى خمس سنوات وبالقانون. والحقيقة التي عليها اللهُ أنني شتمتُه فعلاً شتيمة شاوية لا يفهمها إلا الشوايا. فقد لفظتُ عندما علمتُ أن الطفل الذي أحضره أبوه وأمه مريضاً إلى عيادتي اسمه بشار وأنه سُمّي على بشار الأسد، لفظت على الفور: "و ما رفعتْ ذيلها".
المهم لم تمض سوى أيام بعد عودتنا، حتى هربتُ مرتدياً جاكيت قريبي الدكتاتور، الذي لم أزل أرتديه إلى الآن بعد أكثر من عشر سنوات. وبعد أشهر هرب الدكتاتور قريبي إلى السرداب الذي وجدوه فيه.
عن مدونة الكاتب محمد الحاج صالح - مختارات من الصحف
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية