أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الكنائس والمستشفيات.. ميخائيل سعد

حمص.. كنيسة سيدة السلام - ناشطون

ظاهرتان لفتتا انتباهي في الأيام الأخيرة في "مونتريال"، الكنائس الفارغة والمستشفيات المكتظة بالعجائز. 

سأترك الحديث عن الكنائس إلى آخر الموضوع، فأنا بطبعي أحب الحياة وأفضل النساء على الحوريات، ولست متحمسا أو مستعجلا للذهاب إلى الجنة، وعندي متسع من الوقت للتوبة والتفرغ للعبادة، فما زلت في الخامسة والستين من عمري، ومتوسط العمر في كندا قد وصل إلى الثمانين، لذلك سأبدأ بالحديث عن المستشفيات المسنّة، وهذا لا يعني أبدا أنني أميّز بين مستشفيات شابة وأخرى مسنّة في المدينة، وإنما أستعير الصفة من زوار هذه المستشفيات وروادها. 

علمت مؤخرا أن أحد الأصدقاء ذهب إلى أحد المشافي بناء على موعد مع الطبيب المختص بالسكري، فما إن رآه، حتى طلب منه الذهاب فورا إلى قسم الإسعاف، ثم قام بالاتصال بهم، وطلب منهم إدخال المريض فورا، متجاوزا الدور، لأنه قد يموت في اي لحظة. 

بعد علاج استمر أسبوعا كان بالإمكان زيارة الصديق، فقد تم فرض "منطقة آمنة" في شمال جزيرة "مونتريال"، حيث يوجد المستشفى، وأصبح بالإمكان التحرك سيرا على الأقدام أو بالسيارة دون خوف من براميلٍ متفجرةٍ أو رميّ مدفعي أو رصاصة قناص، وهذا ما أتاح لي زيارة الصديق المريض عدة مرات. 

كما أن حالة الطمأنينة التي حققتها "المنطقة الآمنة" أعطتني الفرصة لتأمل ما يجري حولي وفي ممرات المستشفى. 

أبدأ بالصديق، الذي اعترف لي، بأنه لو لم يكن في كندا لكان قد مات منذ سنوات، فالموت في الستين هي "عادة" في عائلته، وخاصة بالنسبة للذكور، وقد انخفض الآن، بفضل إجرام ابن الأسد، متوسط سن "الموت" هناك، يعني في سوريا، إلى الأربعين، والفضل لكندا في ما عاشه من سنوات إضافية بلغت برأيه أكثر من عشر سنوات، لذلك لا يعرف كيف يجب أن يشكرها.

قلت له: أظن أن كندا كدولة وكحكومة تقوم بواجباتها تجاه مواطنيها، أما شكر الحكومة أو عدمه فيتم أثناء الانتخابات ومن خلال التصويت لهذا الحزب الذي يشكل الحكومة او ذاك، حسب رضا المواطن عن الخدمات التي قدمتها حكومة هذا الحزب أو تلك، أما الشعور أننا ضيوف هنا، وعلينا شكر صاحب الدار، فأنا ضده، فقد مضى على وجودك في هذا البلد حوالي 15 سنة، وأظن أن ذلك كافٍ كي نعيش كمواطنين ونتصرف كمواطنين، لأننا ببساطة لا نعيش في "جنة" آل الآسد، حيث كل حقوق المواطنين هناك هي "أعطيات وهبات ومكرمات" من الأب القائد إلى رعاياه المخلصين مقابل التمجيد لحضوره الأبدي..الملاحظة الأخرى القوية والتي لا تحتاج إلى عين خبيرة هي عدد المسنين في المشفى. 

صحيح أني لم أقم بإحصاء لمعرفة نسبة الشباب والشابات إلى نسبة المسنين من الجنسين، ولكن حسب ما رأيته في الطابق الذي يتواجد فيه صديقي إن نسبة المسنين تتجاوز التسعين بالمئة، فهم يشغلون الأسرة ويسيرون في الممرات بثيابهم الزرقاء على قدمين أو في نقالات يدفعها ممرضون وممرضات. 

والفئة الشابة الوحيدة هي الممرضات والممرضون والأطباء، وبينهم من تضع حجابها ومن يطلق لحيته فوق بشرة سمراء دون أن يلفتا انتباه المرضى أو الزوار إلا الزوار أمثالي، أصحاب العقول الملتاثة بالدين. 

ولكي يكون حكمي قريبا من المنطق أعترف بأنني لم أزر بقية أقسام المستشفى الأخرى، كقسم الأطفال مثلا للتأكد من نسبة العجائز فيه أو قسم الولادات، فمن المعروف أن عددهم قليل، إذ إن المتوسط العام للولادات لا يتجاوز 1.4 طفل للعائلة الواحدة، وهذا ما يفسر شيخوخة المجتمع الغربي برمته وحاجته الدائمة إلى مهاجرين.

زياراتي المتعددة إلى المشفى جعلتني أخاف، شعرت أن الموت قريب وأكاد أشم رائحته، فتذكرت قول المرحومة جدتي لي: عندما تخاف من العفاريت والجن أو من الموت فعليك بالذهاب إلى الكنيسة، قررت العمل بهذه النصيحة، ووضعت خطة لزيارة الكنيسة أو الكنائس التي أثبتت فعاليتها في طرد العفاريت والموت إلى أجل بعيد. 

بدأت من حينا، ففيه ثلاث كنائس، كنت أمرّ أحيانا من أمامها، وأزور أقبيتها عندما يكون فيها بيع للثياب المستعملة والمفروشات والكتب، كان المصلون والمنظمون للبازارات من الكيبيكين، فكانت بانتظاري مفاجأة من العيار الثقيل وضعتني أمام حقيقة "انفصالي" عن الواقع المعاش، وعدم ملاحظتي للتغيرات الديمغرافية في الحي الذي أسكنه منذ سنوات، علما أن لا حرب أهلية حدثت في "مونتريال" ولا تهجير للسكان، ولم ألاحظ أي نوع من التطهير العرقي، فكيف حصل أن إحدى الكنائس قد تحول لون المؤمنين فيها إلى الأسود، وعهدي بهم بيض البشرة، والثانية أصبح لون المؤمنين أسمر ولغتهم اسبنيولية، أما الثالثة فكانت مغلقة الأبواب لعدم وجود زبائن.

قلت لنفسي: لماذا يا رجل تتنكر لأصولك ولا تذهب إلى كنيسة سورية، ولكن سرعان ما طردت هذه الفكرة من رأسي، فلا زالت صور الكنائس السورية التي قصفها نظام ابن الأسد ماثلة أمامي بالعشرات، وأنا هارب أصلا من الموت والعفاريت، فلماذا أذهب بقدمي إليهما. 

صحيح أننا في كندا وطائرات الأسد ومدافعه لا تستطيع الوصول إلى هنا، ولكن من يضمن لي ذلك، والتحالفات الدولية تتغير كل يوم، لذلك قلت لنفسي: "يا ولد بعد عن الشر وغنيلو". 

ولما لم يبق أمامي من خيار إلا البحث عن كنيسة كيبيكية بيضاء البشرة، أعجمية اللسان، اتكلت على الله الواحد الأحد الفرد الصمد، وذهبت إلى كنسية في حي كيبيكي كاثوليكي نقي، وما إن رسمت علامة الصليب الارثوذكسية على وجهي ودخلت، حتى وجدت بانتظاري حوالي عشرين مؤمنا ومؤمنة، هم كل رواد صلاة الأحد، وهم نفس العجائز الذين رأيت أغلبهم في المشفى أثناء زيارتي لصديقي السوري هناك، ينظرون إليّ باستغراب، وكأني يوحنا المعدان الذي قطع رأسه بشار الأسد تلبية لطلب زوجته البريطانية أسماء الاخرس، قد بُعث حيا من بين الأموات.

(163)    هل أعجبتك المقالة (151)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي