عيب عليكم يا شوام.. علي عيد

يتساءل كثر من السوريين عن هوية دمشق اليوم، سيما وأن عشرات الآلاف من عناصر الميليشيا الشيعية باتت تتحكم في مفاصل المدينة وتقيم حواجز على مداخلها، وكانت الصورة الأبلغ هي تلك التي انتشرت في احتفال بيوم القدس (الجمعة الأخيرة من رمضان) حيث ارتفعت أعلام إيران وحزب الله دون العلم السوري فوق المباني التاريخية وحول الجامع الأموي وسوق الحميدية.
أذكر أنني سمعت حديثاً منقولاً عن مهندس سور التلفزيون الرسمي يقول فيه إنه صمم السور على هيئة كتل وبوابات بعدد خلفاء الدولة الأموية، وجعلها منحنية إلى الأمام نحو مكتبة الأسد التي أقيمت أساسا على أرض من ربوة دمشق كانت تسمى بستان هشام وكأن خلفاء بني أمية يسجدون للأسد.
كثيراً ما أثار الموضوع سخرية في نفسي إلا أن المسألة على ما يبدو باتت حقيقة ماثلة للعيان، وما دفعني للحديث في هذه الحقيقة مشهد درامي مثير للدهشة حيث تابعت بعض حلقات دراما "باب الحارة" بجزئه السابع ولا عيب في ذلك، إلا أنني لم أكن متعاطفاً مع الشخصيات الدرامية بقدر تعاطفي مع فكرة الشام (دمشق)، ببعدها التوثيقي.
في الحلقة الثلاثين لفتني "عصام" الذي يلعب دوره الفنان ميلاد يوسف عندما يسكب من قدر كبير في صحن لأحد أبناء الحارة وهو يردد: "هي عن رقية وهي عن زينب وهي عن شام" ثم يتكرر المشهد "هي عن رقية وهي عن زينب".
كنت سأفهم أن المسألة هي من باب المصادفة فحسب، أو أنها ليست جزءاً من رسالة درامية، لكن تكرارها وبدون ذكر شام في المرة الثانية حمل الدلالة على أن فريق المسلسل متورط عن آخره في عملية حقن مذهبي مقيت.
وزد على ذلك قصة يهود دمشق التي جرى إقحامها من بوابة قصة عشق "معتز" لليهودية "سارة".
نعم يعرف أهل دمشق تاريخياً أن فيها عائلات شيعية ومنها النحاس، اللحام، الروماني، الأشقر، نظام، صندوق، وغيرها من العائلات التي سكنت حي الأمين، إلا أن تلك العائلات لم تكن تشكل فارقاً في المدينة وكانت جزءاً صغيراً من محيط مختلط، إذ يغلب السنة على سكانها ثم المسيحيون بطوائفهم، ثم اليهود والشيعة.
وللحقيقة فإن اليهود كانوا يشكلون بين 7 و8 بالألف من سكان سوريا في أول إحصاء جرى عام 1922 بعد انتهاء الاحتلال العثماني، وكان الشيعة وقتها أقل من اليهود إذ لا تتجاوز نسبتهم في عموم البلاد نحو 6 بالألف.
وبما أن الجزء الأخير سعى لترميز دمشق ديانات وطوائف ومذاهب في قصص مصنّعة ومثقلة بحمولات زائدة، يبدو أن مشرف العمل اختار إظهار اليهودي والشيعي وتقليص رمزية المسيحي والسني مدفوعاً بقرار سياسي، أو بتمويل مرتهن للظرف الذي تعيشه دمشق تحديداً.
بات في شبه المؤكد أن "باب الحارة" هو محاولة ذكية لاستغلال الفن في ظرف سياسي معقّد، وقد لا يغيب عن الذهن أن السينما والدراما لطالما تم استخدامهما في خدمة أفكار سياسية، أو للترويج لأنماط من التفكير، أو لتعميق فكرة البطل كما في أفلام هوليود التي تمجد صورة المقاتل الأميركي.
في الحديث عن فكرة إدخال اليهود كعنصر أساسي في المسلسل، يحاول بسام الملا استغلال شعبية حققها المسلسل في جزئه الثاني وهو الذي صرح بعدها بأن إسرائيل استشعرت أهمية المسلسل خاصة "مع جعل القضية الفلسطينية محوراً أساسياً في العمل"، لكن اللافت أن العمل تجاهل القضية الفلسطينية هذه المرة، وجرى التركيز على حياة اليهود كجزء أصيل من البيئة الدمشقية، وهي فكرة مهمة لو لم تكن تهدف إلى تعزيز قناعة لدى اليهود بأن الدراما القريبة من النظام الحاكم في دمشق تتمتع بحس عالٍ من الانفتاح، وتهتم بالجزء الخاص بهم في تاريخ المدينة ما يعني أن هذا النظام يبقى الأقرب إلى مصالح إسرائيل.
وكانت استطلاعات تحدثت قبل سنوات عن أن جميع اليهود السوريين في إسرائيل ينجذبون "إلى باب الحارة"، حيث نقل موقع الجزيرة. نت عن يهود إسرائيليين قولهم "هذه التمثيلية تذكرنا بحياتنا في حلب.. هذه حياة الشام الحقيقية وحياة سوريا التي نحبها.. كل اليهود السوريين (نحو 5000) يتحدثون عن باب الحارة ويقولون العقيد فعل هكذا، بات (الأمر) مثل الأكل آو مثل الإدمان".
اجتماعياً وثقافياً، استطاعت دمشق عبر التاريخ أن تهضم ثقافات الجماعات التي دخلتها، إذ غلبت اللهجة الشامية، واللباس والعادات والتقاليد والأهازيج على الجميع، كان السني يعتبر قبري زينب ورقية باباً للتبرُّك، ولم تكن أماكن حج، ولم يجرؤ أحد تاريخياً على المس بحقيقة أن دمشق هي عاصمة الدولة الأموية، أول دولة في التاريخ الإسلامي، حملت ملامح المدنية وتوسعت حتى أصبحت امبراطورية تمتد لنحو 13 مليون كيلومتر مربع.
غير مفهوم اليوم أن يسكت الدمشقي عن صور اللطميات ومظاهر شج الرؤوس وضرب الصدور في الجامع الأموي الكبير، وعن رايات حزب الله وإيران التي تجتاح الساحات والشوارع، لأن تلك المظاهر تمثل معادلاً موضوعياً للتشدد القادم من خارج الحدود.
لا أدعو الحمية السنية للتصدي لمظهر تشييع عاصمة الأمويين، لأن المسألة لا تدخل بالنسبة للسوريين في باب التمذهب العقائدي، بل تشكل ضرباً في تاريخهم وصولاً إلى تغيير ملامح حاضرتهم الأهم ديموغرافيا.
إن صورة دمشق الشيعية ستخلف صراعاً وأحقاداً تمتد لعقود، وهناك على ما يبدو من يحاول تجذيرها من خلال رسائل مسمومة كما حصل في دراما "باب الحارة".
يستطيع دراميو نظام الأسد اليوم توجيه رسائل تنبعث منها روائح عقل المخابرات والمال الإيراني، إلا أنهم لن يكونوا قادرين على الحد من قدرة دمشق على هضم مرحلة مشوّهة في حياة السوريين عنوانها خليط أيديولوجي مافيوي مذهبي، وحتى وإن كان الهضم عسيراً وممرضاً إلا أنه سيحصل بفعل سبعة آلاف عام من عمر هذه المدينة.
لكن ما يثير الدهشة هو غياب الدمشقيين وصمتهم علماء وأدباء وأصحاب فكر.. وفوق هذا يأتي بينهم "متحربق" يغمز بطرف عينه وهو يحدثك قائلاً إن "الشوام" سيتفرجون ثم سيركبون قمرة القيادة آخر المطاف .. "عيب عليكم يا شوام".
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية