أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

داعش والمياه الجوفية.. ميخائيل سعد*

كاركاتير - أرشيف

أرجو أن لا يغش عنوان المقالة أحد القراء فيعتقد أنه سيقرأ مقالة علمية في علم طبقات الأرض والمياه الجوفية وطرق تشكلها والاستفادة العلمية أو الفوضوية منها، كل ما في الأمر هو القول إن داعش ليس طارئا ولا جديدا في حياتنا. ولا أقصد بداعش، المحمول الديني أو السياسي الحالي للاسم، وإنما هو عالم المعرفة الذي ميز أجدادنا عن بقية شعوب العالم يوم كان العقل والإيمان لا يتنافسان، فالقصة التي سأكتبها، وهي بالمناسبة حقيقية، تدل على أن "الدعشنة" فعل قديم مارسته الأنظمة مع حافظ الأسد وقبله، ومارسه رجال السياسة والفكر والأدب ورجال الدين بمختلف طوائفهم وأديانهم، أي أن "الدعشنة" ليست حكرا على أولاد "السنْة" كما يريد الكثيرون قوله، لرد التهمة عن أنفسهم، بل هي سمة بارزة من سمات المجتمع السوري.

في تسعينيات القرن الماضي جاءت إلى مونتريال باحثة فرنسية (نسيت اسمها للأسف) مختصة بالشؤون السورية، وتتكلم العربية بشكل جيد، كان مركز الدراسات العربية قد دعاها لتحاضر عنده، وقد حضرت الندوة، ثم قمت بدعوتها للحديث عن سوريا في النادي الكندي العربي، ولكي لا نثير مشكلة سياسية بين أعضاء النادي طلبت منها أن تتحدث عن موضوع غير سياسي، فاقترحتْ أن تتحدث عن أزمة المياه في الشرق الأوسط، لأن رأيها أن الحروب القادمة ستكون بسبب ندرة المياه في الشرق الأوسط.

كانت الفكرة ممتازة، فهي غير سياسية وسياسية في الوقت نفسه، تعرضتْ في كلامها إلى السياسات الحكومية السيئة في استخدام المياه الجوفية التي ستقود إلى كارثة محققة في مجال نقص المياه وازدياد نسبة التصحر في سوريا، مما سيدفع بالناس للبحث عن المياه، حتى لو كانت عبر الحروب. وخلصت الباحثة الى نتيجة تقول: إن الحروب القادمة في المنطقة ستكون على مصادر المياه وليس على النفط.

كان أحد أصدقائي حاضرا، وحاول تفنيد قول الباحثة، الذي أشتم منه هجوما على حكومة الأسد، ولكن عقلانية الباحثة وهدوءها في الرد فوتت الفرصة عليه فالتزم الصمت مرغما.

في أحد الأيام التالية للمحاضرة دعاني هذا الصديق للعشاء عنده، وتجدد النقاش حول موضوع المياه في سوريا، لأننا كنا نتجنب النقاش السياسي، فهو من المؤيدين للنظام، ولا نريد أن نخسر بعضنا في المهجر، كررت ما قالته الباحثة لقناعتي به، وكرر رفضه لطريقة العرض التي تدين سياسات النظام، ثم توقف فجأة في وسط صالون بيته، واضعا يديه حول خصره وقال: يعني بدك تقنعني أنت وإياها أن مياه الآبار ستجف؟؟ قلت له: ليست المسألة إكراهك على الاقتناع، فالموضوع علمي بحت؛ عندما لا تتساقط الأمطار ويرافق ذلك استخدام مفرط لمياه الآبار، النتيحة الطبيعية أن ينتهي مخزون الأرض من المياه في هذه المنطقة.

قال: ولكن الآبار تتغذى بالمياه من البحار، فهناك قنوات تحت الأرض ممتدة من البحر إلى كل بئر ارتوازي. لذلك لا معنى لكلامكم ولتخويف السوريين من الجفاف والحروب المائية مستقبلا.
بعد كلام السيد، توقف عقلي للحظات عن العمل، ثم حاولت اكتشاف الجانب الساخر في كلامه، ولما تأكد لي أنه جاد فيما قاله، ناديت على ابنته، وكانت في الصف السادس الابتدائي، وسألتها إذا كانت تعرف كيف تتكون المياه الجوفية ،فقالت: اي عمو بعرف، ثم تناولت قلما وورقة ورسمت بعض الخطوط ثم شرحت لنا كيفية تكّون خزانات المياه الجوفية بين طبقات الأرض.

قال لها والدها: انقلعي من هون، تضربي أنت وهالمدارس وهالعلم.

ولتوضيح عنوان المقالة والربط فيها بين داعش والمياه الجوفية، لا بد من توصيف مؤهلات صديقي العلمية، فهو مجاز من جامعة دمشق، قسم الفلسفة، وكان قبل انتقاله لتدريس الفلسفة معلم ابتدائي، يعني أنه خريج دار المعلمين بعد دراسة أربع سنوات، ولكي لا "ينط" أحدهم من بين السطور متهما المسلمين بالتخلف والسلفية والبداوة، أسارع للقول إن صديقي هو ابن إحدى الأقليات التي يغمرها "نور العلم"، وما يمنعني عن تسميته وتسمية طائفته هو حرصي على أن لا يفسرها بعض الجهلة من "الدواعش" بأنني أغذي النعرات الطائفية في بلد كل ما فيه الآن يتحرك بدوافع طائفية.

في الختام أريد أن أقول إن عقل هذا الرجل، غير "السني"، هو عقل داعشي بامتياز، في فهمه العلمي، وفي تعصبه لنظام قتل أكثر من نصف مليون سوري، وهجر أكثر من عشرة ملايين منهم، داخل سوريا وخارجها، ودمر ثلث البيوت السورية، ولا يزال، حتى الآن، يرى في هذا النظام المنقذ العلماني الذي سيقود سوريا إلى بر الأمان.

إن السياسات التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية لنظام بيت الأسد هي المسؤولة مباشرة عن "دعشنة" المجتمع السوري برمته، دون استثناء. والبديل الوحيد هو دولة ديمقراطية يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، بغير ذلك نحن ذاهبون إلى الفناء.

*من كتاب "زمان الوصل"
(161)    هل أعجبتك المقالة (228)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي