أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الانفجار الأكثر دمويّةً منذ اغتيال الحريري: 15 قتيلاً و45 جريحاً في طرابلس

حافلة الموت في شارع المصارف في طرابلس أمس (أ ب)حافلة الموت في شارع المصارف في طرابلس أمس (أ ب)

إنها السابعة والنصف صباحاً. يكاد المشهد يكتمل في شارع المصارف في طرابلس. ككل يوم، حضر بائع الكعك وعصير البرتقال باكراً، لكنه لم يسبق بائعي القهوة أو الفتى ماسح الأحذية الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره. رجال الجيش الذين يقصدون موقف الحافلات لينتقلوا من الشمال، «خزّان المؤسسة العسكرية»، إلى مراكز خدمتهم صاروا كثراً. المدنيون بدأوا بالتوافد، لكن النصاب لم يكتمل. فبائعو الكتب موعدهم عند التاسعة، وذروة الزحمة الصباحية لم يحن وقتها بعد. أمام المبنى القديم الذي جُدّدت قناطره حديثاً، توقّف الباص العامل على خط حلبا ـــــ بنت جبيل، لينقل من أقصى الشمال جنود الجيش المرابطين جنوبي نهر الليطاني. يفصل بين الباص وموقف الحافلات رصيف وسياج حديدي.
لم تُشِر الساعة إلى السابعة وخمس وأربعين دقيقة بعد. بين الباص والسياج، انفجرت عبوة ناسفة أخرس دويّها أبواق السيارات وزحمة المدينة. أجساد وبزّات مرقّطة تناثرت بين الكعك وحبات البرتقال وقطع عربات القهوة ومتاع العسكريين. أهالي طرابلس القريبون بدأوا يركضون. إنها الصدمة في العيون المحدّقة في أجساد القتلى والجرحى.

جثث أخرجها عصف الانفجار من نوافذ الباص. هنا رجل يصرخ وقد بُتِرَت ساقه. يتقدّم منه رجل ملتحٍ. يتحرّك من دون أن يعرف ماذا يفعل. يقول بلهجة أهل الشمال: «هيدا عايش. الله أكبر على الظالمين». جسد الفتى ماسح الأحذية طار أمتاراً قليلة. نُقِل إلى المستشفى حيث لم يتعرّف عليه أحد. «إنه من النَّوَر»، يؤكد عدد من عارفيه. لم يحتمل جسده الصغير عصف الانفجار فمات بعد الظهر. ومعه، ارتفع عدد الشهداء إلى 14، وانخفض عدد الجرحى إلى 46. إنها المجزرة الأكثر عدداً (الناتج من عبوة ناسفة) منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي لم تعتد عاصمة الشمال على مثلها منذ الحرب الأهلية.
مواطنون من مختلف الأعمار هرعوا إلى موقع الانفجار للاطمئنان على أقارب لهم أوردت وسائل الإعلام أسماءهم في عداد القتلى أو الجرحى، لكن الطوق الأمني منعهم من الاقتراب. «الله يخلّيك أريد الاطمئنان على ابني»، تقول امرأة بلهفة وقلق، فيردّ عليها الجندي بحزم: «ممنوع الاقتراب يا أختي. الشهداء والجرحى أصبحوا في المستشفيات.

أما الصحافيون والمواطنون الذين صعدوا إلى أسطح البنايات المجاورة لرؤية موقع الانفجار وتصويره، فقد سارعت عناصر أمنية إلى إنزالهم: «يا أخي لا تصوّر. بدّك تخرب بيتي وبيتك؟» يصرخ جنديّ بأحد الزملاء الذي يسارع إلى «ضبّ» كاميرته والابتعاد، فيما كان ضابط يطلب من أحد المصوّرين مسح صورة التقطها، وإلا «سوف أكسر لك الكاميرا».
أغلقت القوى الأمنية كل الطرقات المؤدية إلى موقع الانفجار، ابتداءً من مستديرة ساحة عبد الحميد كرامي (ساحة النور)، مروراً بساحة التل ومتفرعاتها، وصولاً إلى إشارة شارع عزمي.
كانت الفوضى الأمنية لا تزال مسيطرة بعد أكثر من ثلاث ساعات على وقوع الانفجار.

رجال من جميع الأجهزة الأمنية حضروا إلى المكان، قبل أن تتولى الشرطة العسكرية وحدها التحقيق في الجريمة. أما المستشفيات التي نقل إليها القتلى والجرحى (المنلا والإسلامي الخيري والإسلامي الخاص والنيني والمظلوم والحكومي)، فقد ضجّت بمواطنين كان البكاء والنحيب والحزن والقلق والغضب مسيطراً عليهم. علا صوت النسوة اللواتي لم تتوانَ إحداهنّ عن نزع غطاء رأسها وهي تصرخ: «يا ربّ انتقم منهم».
الحصيلة النهائية للشهداء حتى مساء أمس كانت 9 عسكريين و6 مدنيين، وهم: فواز خلف، محمد محمود أبو بكر، زياد عبد الكريم، محمد مصطفى المرعي، عماد عبد النور، عبد الرحمن زريقة، حبيب الياس البطش، محمد العمري، مصطفى فيصل العشي، حسين الزعبي، هيثم قاسم، خالد العبد الله، محمد المحمد، أحمد رياض الحسن، فضلاً عن شخص من آل كنجو.
التحقيقات بدأت بإشراف مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي جان فهد الذي تفقّد مكان الانفجار، وقد زاره المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، يرافقه قائد الدرك العميد أنطوان شكور. أما وزير الداخلية زياد بارود، فانتقل إلى سرايا طرابلس حيث عقد اجتماعاً مع ريفي والضباط العاملين في منطقة الشمال.
وأظهرت النتيجة الأولية للتحقيقات أن الانفجار نتج من عبوة ناسفة كانت موضوعة خارج الباص، وقدِّرت زنتها بنحو 2000 غرام فقط من مادة TNT.

وذكر مصدر أمني أن العبوة احتوت على «عزقات» حديدية مضلّعة، وهي التي أصابت أجساد الشهداء والجرحى وأدّت إلى هذا العدد الكبير من الإصابات. وأفاد المصدر أن العبوة موجّهة العصف بشكل شديد الاحتراف، مرجحاً أن تكون قد فُجِّرَت عن بعد.
مصادر أمنية رجّحت أن يكون أفراد الجيش هم المستهدفين في الانفجار، وخاصة أنه وقع في موقع يكون عادةً مكان تجمّع خاص بالعسكريين الآتين من مختلف المناطق الشمالية، قبل انطلاقهم بواسطة باصات صغيرة ومتوسطة إلى أماكن عملهم، وهو يقع بجوار بنك بيروت في شارع المصارف، بمحاذاة موقف خاص للسيارات في المنطقة، فيما التجمعات الأخرى الموجودة في المكان (قرب البنك العربي وبنك بيروت والبلاد العربية، أو قرب سينما «الريفولي» ومطعم «البيغ بايت» سابقاً)، يختلط فيها عناصر الجيش بالمدنيين.

استنكار واسع

وكالعادة، وبعد كل انفجار، تسابق السياسيون والأحزاب والنقابات والشخصيات الدينية إلى استنكار الجريمة ووصفها بأبشع الأوصاف. وتحدّثوا جميعاً عن توقيت الجريمة وارتباطه بنيل الحكومة ثقة البرلمان وبزيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان إلى سوريا، موجهين التعازي إلى عائلات الضحايا، ومطالبين الأجهزة الأمنية بالكشف عن المجرمين ومنعهم من «تعميم الفتنة».
رئيس الجمهورية، العماد ميشال سليمان، أكد أن الجيش والقوى الأمنية «لن تخضع لمحاولات إرهابها». أما رئيس مجلس النواب، نبيه بري، فأشار إلى أنه «في غير مناسبة عبّر عن تخوفه وقلقه من أن يلجأ المتضررون من سلام لبنان واستقرار نظامه إلى محاولة إعاقة هذه المسيرة». وضم رئيس الحكومة فؤاد السنيورة صوته إلى صوت سليمان، مشدداً على «أن الحكومة اللبنانية، بكل أجهزة الدولة اللبنانية لن تقصّر في العمل والمتابعة والملاحقة لكشف المجرمين وإنزال القصاص بهم».
رئيس الجمهورية السابق العماد إميل لحود تحدّث عن «المؤامرة التي بدأت ملامحها مع اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتي تصاعدت مع العصابات الإرهابية التي واجهها الجيش في نهر البارد». أما الرئيس الأسبق للجمهورية، أمين الجميل، فرأى أن الجريمة أتت في «إطار مخطط مبرمج يبدأ بضرب المؤسسة العسكرية بالدرجة الأولى». وصرّح الرئيس الأسبق للحكومة الدكتور سليم الحص باسم منبر الوحدة الوطنية ليرى عدم جواز مكافأة الجيش بهذه الطريقة «على ما أدى ويؤدي من دور بنّاء وفعّال في هذه المرحلة التي يستهدف فيها أمن الوطن والمواطن».

عون: نتيجة إهمال الإرهاب

رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون رأى أن جريمة طرابلس هي نتيجة تراكم الإهمال في مكافحة الإرهاب والإرهابيين، محمّلاً مسؤولية معنوية لمن هاجموا الجيش في الفترة الماضية، مشيراً إلى أن «أبناء الشمال هم الضمان، وعليهم ألا يسمحوا بالانتحار الذاتي».
ولفت الرئيس الأسبق للحكومة عمر كرامي إلى أن هذا الاعتداء «يمثّل فاتحة لنوعية جديدة من الصراعات الدموية»، متحدثاً عن «اختيار طرابلس مسرحاً من أجهزة دولية لها توابعها المحلية»، قبل أن يدعو إلى الكف عن «الاستعراضات الانتخابية». أما نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري فقال إن «الانفجار يؤكد أن لا أمن بوجود سلاح غير شرعي وجزر أمنية ومناطق ليست في كنف الدولة».

الحريري: ضرورة الإحالة على المحكمة الدولية

رئيس كتلة «المستقبل» النيابية النائب سعد الحريري، حذّر من «مؤامرة كبيرة تستهدف مدينة طرابلس والجيش»، مشيراً إلى أن الجريمة «تستوجب من الحكومة إجراءات سريعة وتصنيفها في إطار الجرائم التي أُحيلت على المحكمة الدولية».

وطالب الحريري مجلس الوزراء بعقد اجتماع طارئ يخصص لمدينة طرابلس، التي طالب أهلَها بالالتفاف حول الجيش.
من ناحية أخرى، دفعت جريمة طرابلس وزير الدفاع إلياس المر إلى المعاهدة «على تعزيز الجيش وتوفير كل مستلزماته العسكرية واللوجستية في أسرع وقت لكي يتمكن من أداء واجباته الوطنية أكثر فأكثر». أما وزير العدل إبراهيم نجار، فأشار إلى أن الشبهات تحوم حول شخص ترك حقيبة تحوي المتفجرة، طالباً من النيابة العامة التحقيق في معلومات عن استخدام أسلحة إسرائيلية في معارك طرابلس. بدوره، وعد وزير الداخلية زياد بارود بطمأنة الرأى العام فور توافر نتائج التحقيق.

 وكان لافتاً تصريح وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي الذي تحدّث عن «حسابات صغيرة» تسمح للبعض «بالدخول في لعبة النار من خلال توهمهم أنهم بالتلطي وراء هذه الجهة أو تلك، أو ادعاء حمايتها والانتصار لكرامتها في السر أو في العلن، في حين أن الهدف الحقيقي هو تصفية حسابات على أبواب انتخابات»، متوعداً هؤلاء بأنهم «بالتأكيد سيدفعون الثمن».

الجيش: استغلال التداعيات

قيادة الجيش التي قالت في بيان أصدرته إن الانفجار يستهدف «الجيش ومسيرة السلم الأهلي»، لفتت إلى أن ما حصل «يصب في خانة الاستغلال الواضح من الإرهاب لتداعيات السجالات السياسية الحادة، مع ما جاء في بعضها من تنكر وإغفال لتضحيات المؤسسة العسكرية، ولدورها في حماية الاستقرار العام». أما نواب طرابلس، سمير الجسر ومصباح الأحدب ومصطفى علوش ومحمد كبارة، فطالبوا مجلس الوزراء بعقد اجتماع استثنائي «لمعالجة الوضع الأمني في طرابلس في صورة جذرية تضع حداً للميليشيات المغطاة من قوى خارج المدينة التي تريد النيل من أمن المدينة»، فضلاً عن «وضع خطة إنمائية واجتماعية واقتصادية» لها.
بدوره، رأى «حزب الله» «أن هذه الجريمة تستهدف المؤسسة العسكرية التي يجب الحرص عليها وعلى دورها». وتفرّد رئيس المركز الوطني في الشمال، كمال الخير، في الإشارة إلى أن الجريمة وقعت بعد زيارة عدد من المسؤولين الأميركيين، «في محاولة للضغط على مؤسسة الجيش الوطنية لتغيير عقيدتها القتالية».
أما الشيخ داعي الإسلام الشهال، فرأى أن الجريمة تأتي «ضمن مخطط التفجيرات والاعتداءات التي تسعى لنشر الفوضى»، مستغرباً «توقيت هذا العمل المجرم بالتزامن مع زيارة الرئيس إلى سوريا والتحركات لإطلاق سراح السجناء الإسلاميين ومحاولة تصوير طرابلس على أنها بؤرة تطرف وإرهاب».

ردود فعل دولية

أول ردود الفعل من خارج الحدود أتى من سوريا التي قال مصدر رسمي في وزارة خارجيتها إنها «تدين بشدة العمل الإجرامي المروّع»، مؤكداً «التضامن مع لبنان في مواجهة كل الأيدي التي تعبث بأمنه واستقراره». ودان الجريمة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وكل من إسبانيا والسعودية والأردن. بدوره، أكّد الاتحاد الاتحاد الأوروبي أنه سيستمر في «بذل الجهود لضمان أمن لبنان ووحدته». ورأى الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى أن الاعتداء «يهدف إلى إرباك الموقف الأمني والسياسي في لبنان وإعاقة انطلاقة الحكومة الجديدة».



تجنيب طرابلس أن تكون جورجيا جديدة

رأى رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط أن الانفجار «يؤكد أن أي دعم للتيارات الظلامية من أي جهة محلية أو خارجية، يؤدي حتماً إلى استنساخ التجربة العراقية في لبنان، ونحن بغنى عن مجالس الصحوة، لأن الجيش هو الوحيد المكلف ضبط الأمن. وهذه المهمة تتطلب الدعم غير المشروط من كل القوى السياسية، ما يجنب طرابلس أن تكون جورجيا
جديدة».

دعم قمّة الأسد وسليمان

أكّد الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي «دعم فرنسا الثابت للبنان وسلطاته ومؤسساته في مكافحتها للإرهاب». وأشار بيان صادر عن الرئاسة الفرنسية إلى «القمّة المهمّة» بين الرئيسين السوري واللبناني، مؤكداً دعم ساركوزي «الكامل للعملية الجارية والتزامه من أجل السلام والاستقرار في المنطقة».

لإعادة النظر في الإجراءات الأمنيّة

شدّد رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي على «أن الرسالة الدموية التي وجهت اليوم من قلب طرابلس تقتضي من الأجهزة الرسمية إعادة النظر في الإجراءات الأمنية والمعلوماتية المتخذة لكشف الفاعلين بسرعة وتطويق نار الفتنة، كما يقتضي من القيادات المعنية في المدينة رفع الغطاء عن كل مخلٍّ بالأمن».

رسالة ممّن يرى قيادة الجيش طائفيّة

رأى رئيس «جبهة العمل الإسلامي» الدكتور فتحي يكن أن التفجير «رسالة إلى المؤسسة العسكرية من فريق يصنف المؤسسة بأنها عدوة وأنها طائفية القيادة». وأضاف أن «هذا لا يعني أن الذي فجّر العبوة هو من هذا الفريق عينه، بل دخل على هذا الإشكال للإيقاع بين الجيش والأفرقاء المعنيين».

صحف
(107)    هل أعجبتك المقالة (106)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي