من أعلى قلعة مدينة حماة الأثرية التي تعتبر من أقدم أماكن الاستيطان المدني في منطقة حوض العاصي تصافح عينا الزائر ليلاً عشرات المآذن التي تبدو كنجوم خضراء تزَّنر سماء المدينة متلألئة تخلب لب الناظر وتبعث في جوانحه السكينة والطهر والنقاء والسمو، وتضم مدينة حماه عدداً كبيراً من المساجد القديمة التي يرقى عهد بعضها إلى أكثر من ألف عام بل أن واحداً منها وهو المسجد الأعلى الكبير يعتبر خامس مسجد بني في الإسلام بعد مسجد قباء والأقصى والحرمين الشريفين ويضم ضريح أميرين حكما حماة في القرن الثالث عشر والضريحان مصنوعان من خشب الأبنوس المرصع بالعاج وهناك مسجد أبو الفداء الذي مُنح لقب سلطان حماة في القرن الرابع عشر والذي اُشتهر بكونه واحداً من كبار المؤرخين والجغرافيين العرب وهو صاحب التاريخ الشهير ( المختصر في أخبار البشر) وكتابه الجغرافي الموسوعي الرائع ( تقويم البلدان ) وهناك مسجد الجامع النوري الذي شيده نور الدين الزنكي عام 1129 وعلى جدرانه توجد بعض الكتابات اليونانية والعربية وغيرها.
قبة الخزنة
يقع الجامع الأعلى الكبير في محلة المدينة ويُعتبر أعظم آبدة عمرانية باقية في مدينة حماه وقد بدأ هذا الجامع معبداً ثم أضحى كنيسة كبرى ثم أمسى جامعاً وهذا ما يبرز في معالمه التي تحمل بصمات ثلاثة مدنيات حضارية كبيرة وهي الرومانية والبيزنطية والعربية والإسلامية ويعود بناء هذا الجامع إلى عام 17 هجري عندما فتح أبو عبيدة بن الجراح حماة وعُرف بالجامع الأعلى الكبير لأنه كان أعلى من الأرض ويصعد إليه المصلون على الدرج وكانت تتبع له في العهد الأيوبي دار ( الملك المظفر ) ومدرسة السيدة ( خاتون ) زوجته ويتميز هذا المسجد بمئذنته الحجرية الرائعة التي لم يبق إلا نصفها ومن أهم معالم هذا المسجد مئذنته الشمالية ومنبره الخشبي المزخرف وقبر الملكين الأيوبيين ( المنصور) و (المظفر ) وتابوتهما الخشبيين وأيضاً قبة الخزنة وفي الجهة الشرقية لحرم الجامع يرى الزائر مداخل المعبد القديم الثلاثة تزيِّنها الزخارف النباتية الرائعة والهندسية الدقيقة التي تغلب عليها أوراق اللبلاب والكنكر وسواهما فضلاً عن المحاريب التزيينية الكبيرة التي انتظمت بين المداخل وازدانت بخصب زخرفي نافر وبديع كما يقول الباحث الراحل ( كامل شحادة ) في دراسة له بعنوان ( معالم حماة القديمة وأبرز أوابدها التاريخية ) . ويبدو التأثير البيزنطي واضحاً في الواجهة الغربية للجامع وفي الأعمدة وتيجانها المستعملة في قبة الخزنة وغيرها حيث يسمو فن البناء البيزنطي وجماله الرشيق بتناسق مداخل الكنيسة الثلاثة فيها ذات السقوف المنحنية والمشكاة الصغيرة المزخرفة من فوقها وذلك بعد تحويل البناء من معبد إلى كنيسة كبرى.
ويتجلى التأثير العربي في الكثير من أقسام الجامع الأعلى الذي تحول من كنيسة إلى جامع - صلحاً كما ذكرنا - إبان الفتح الإسلامي على يد أبي عبيدة سنة 15 هـ - 636 م باتفاق عدد من الروايات وفي الجانب الشرقي يرى الزائر مئذنة مربعة من العهد الأتابكي وهي تحتوي على كتابات عربية بالخط الكوفي أبرزها اللوحة الشرقية الجميلة.
وفي صحن الجامع تنتصب قبة الخزنة على ثمانية أعمدة أسطوانية من الحجر الكلسي تحمل تيجاناً كورنثية غنية جداً بزخارفها وتتوضع على الأعمدة مراسيم وأوامر سلطانية مختلفة الغاية والتاريخ.
وفي داخل الحرم ينتصب منبر خشبي مصنوع من قبل زين الدين كتبغا في سنة 701 هـ - 1301 وهو آية في الروعة والجمال من حيث حفره ونقشه وتطعيمه بالصدف الدقيق الناصع المجزأ إلى أشكال هندسية دقيقة جداً للغاية.
البسملة والهلهلة
على ضفة العاصي الغربية شمالي قصر العظم في المكان المعروف بـ ( باب الناعورة ) يقع ( الجامع النوري ) الذي بناه ( نور الدين محمود زنكي ) عام 558 هـ - 1163 م على أنقاض معبد قديم ويقوم هذا الجامع على ثلاثة قناطر مرتفعة تتوضع في غربها ويتميز هذا الجامع بمنبره الأثري من الخشب المنقوش والمئذنة السامقة المربعة وقبابه الخمس والكتابات الأثرية المهمة على جداره الشمالي ومما يدل على أهمية هذا الجامع ما قاله صاحب الروضتين بأن نور الدين زنكي أقام جامعاً على نهر العاصي من أحسن الجوامع وأنزهها :
يتألف الجامع النوري من ثلاثة مداخل أحدها في وجهته الغربية وآخران رئيسيان في وجهته الأمامية من الشمال وتحتوي هذه الوجهة على ثلاثة لوحات كتابية ذات أهمية آثريه وتاريخية اثنتان بالعربية أبرزهما يحف بها إطار يتألف من حلقات صغيرة تتخَّللها عروق وخيوط نباتية وأوراق نباتية محوَّرة وتبتدئ بالبسملة والهلهلة ثم تشير إلى إنشاء الجامع من قبل ( نور الدين محمود زنكي ) سنة 558 هـ - 1162 م ونُقشت الكتابة الثالثة باليونانية على حجر طولها 180 سم وتتألف الكتابة من أربعة وثلاثين سطراً يرقى تاريخها إلى النصف الثاني من القرن الأول الميلادي وهي ( خلاصة أوامر الإمبراطور دوميسيان قيصر بن أوغست المبجل الموجهة إلى الوالي كليوديوس آتينادور ).
تاج كورنثي
تنتصب في زاوية الواجهة الغربية للجامع النوري المئذنة المربعة التي تتناوب في بنائها مداميك الحجارة السوداء والبيضاء محدثة أشكالاً هندسية ويتكون الحرم من الداخل من أروقة ثلاثة أقواس محمولة على دعائم مربعة استعيض عن إحداها من الشرق بعمود ذي تاج كورنثي زهري اللون جميل.
ويتألف الحرم الجنوبي من قسمين شرقي في سقفه خمس قباب كبيرة مختلفة الشكل والحجم وهو ملحق من قبل الملك أبي الفداء يُسمى ( الروشن) وقد كان في الأصل مدرسة أشارت إليها كتابة فوق المدخل الشمالي كما أشارت إلى الروشن كتابة أخرى فوق محرابه وقسم غربي مستطيل معقود ويحتوي على منبر جميل من خشب الأبنوس مصنوع من قبل الباني نور الدين وهو آية نادرة في فن النجارة العربية.
جامع الحيايا
من جوامع مدينة حماه الأثرية الهامة جامع أبي الفداء وهو ملك حماة بناه سنة 726 هـ - 1325 م فوق بناء تربة الملك المظفر تقي الدين عمر على الضفة الشرقية لنهر العاصي ويتميز هذا الجامع بواجهة الحرم والمحراب المزينين بالفسيفساء الصدفية بأشكال هندسية بديعة والعضادتين الرخاميتين المزدوجتين بتضفيرهما الجميل الرائع وكأنه أفاع ملتفة ولهذا سمت العامة هذا الجامع ( جامع الحيايا ).
وتعلو سقف الحرم المستطيل للجامع بالوسط قبة كبيرة وفي الجانبين سقف معقود وفي صحنه مئذنة وغرفة سقفها قبة مضلعة تضم بداخلها ضريح الملك المؤيد أبي الفداء الذي تنسب مدينة حماة إليه (مدينة أبي الفداء ) وهو أمير شامي ومؤرخ جغرافي من الأسرة الأيوبية .
وإلى الجنوب من قلعة حماة بين منطقتي المدينة والباشورة يقع جامع الحسنين الذي كان يُسمى في الأصل جامع الحسين ويتألف من حرم مستطيل الشكل تعتمر سقفه قبتان كبيرتان أحداهما في الشرق والأخرى في الغرب والقبة الغربية ذات حطة واحدة وهي أقدم من الشرقية ذي الحطتين وقد جرى تجديد القبة الشرقية من قبل ( نور الدين الزنكي ) بعد الزلزال الكبير الذي أصاب مدينة حماة وشيزر وأفاميا ومعرة النعمان وخربها عام 552 هـ 1157 م وقد جاء ذلك في اللوحة الكتابية التي تتوضع على حجر كلسي قائم على مرتفع إلى اليمين من مدخل الجامع و يتألف نص هذه اللوحة من ستة أسطر كما يلي ( بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعمارة هذا المسجد المبارك بعد هدمه في الزلزلة الجارية سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، مولانا الملك العادل المجاهد نور الدين أبو القاسم محمود ابن زنكي ).
وفي الجانب الشرقي من الجامع تقوم قبة مميزة تضم تحتها مقاماً منسوباً للنبي يونس وفي الشمال منها بقايا من ( المدرسة الفريجية ) القديمة التي تُنسب إلى ( زين الدين فرج ) وزير الملك المنصور الأول وقد تغيرت معالم هذه المدرسة الآن فأصبحت داراً للسكن.
خالد عواد الأحمد -زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية