في ستينيات القرن الماضي، قرأت رواية "الاحتقار" للكاتب الايطالي ألبرتو مورافيا، التي تروي قصة زوج وزوجته ينشأ بينهما أول الأمر سوء تفاهم خفيف ككل الازواج، ولكن الزوج يهمل الأمر فيتسع الشق بينهما، ثم يصبح الأمر غير قابل للحل، وتنتهي الزوجة إلى احتقار الزوج، من غير أن يدرك السبب، أو أنه لا يريد أن يعرف السبب.
بطل الرواية كاتب مسرحي أصلا، ثم تحول إلى كتابة سناريوهات سينمائية، مع ازدياد الطلب على هذه السلعة المدرة للمال، وبما أن لهذا الوسط الجديد "أخلاقياته" المختلفة، المرتبطة بالمال والنفوذ، وقد سمعنا الكثير من القصص المشابهة، التي جرت في الوسط الفني والأدبي السوري خلال حقبة الأسدين، فإننا لا نستغرب إقدام "الممول"، وهو الآمر الناهي ماليا، على مغازلة الزوجة علنا، وتجاهل الزوج لسلوكيات الرجل، مبررا ذلك بوعي زوجته وقدرتها على وضع حد لتصرفات المنتج السينمائي، ولكنه، أي الزوج، لا يلاحظ أن ضعفه في الدفاع عن حبه، شجع المنتج على التمادي في غزله للزوجة من جهة، وتلقيه المزيد من نظرات الاحتقار من زوجته من جهة أخرى، إلى أن يصل الأمر أن تقع الزوجة بين أحضان المنتج، بعد أن وصل احتقارها لزوجها إلى درجة عدم قدرتها على رؤية وجهه أو سماع كلامه.
في رواية "الثلج" للكاتب التركي أورهان باموق، المنشورة عام 2001، والتي تتحدث عن شاعر تركي وجد نفسه محاصرا بالثلج في مدينة "قارص" بعد عاصفة ثلجية؛ وهي إحدى المدن الفقيرة المهملة الواقعة شرق تركيا، والتي كانت مركزا هاما لشعوب وحضارات متعددة. كان بطل الرواية، الشاعر العائد من ألمانيا بعد لجوء سياسي هناك استمر 12عاما، يزور المدينة لأسباب متعددة منها مثلا تغطية الانتخابات البلدية التي ستجري في المدينة، بالإضافة إلى إجراء تحقيق عن الفتيات اللواتي أصبن بمرض خطير هناك هو مرض الانتحار، والذي لا يصيب إلا الفتيات المحجبات. أما الدافع الثالث فهو رؤية زميلة جامعية تعيش في المدينة كان يحبها أيام الدراسة، وكانت زوجة أحد "الإسلاميين" المرشحين للانتخابات البلدية قبل أن ينفصلا، والذي يستخدم الدين لكسب أصوات السكان بهدف الوصول إلى رئاسة البلدية. لن أتابع تقصي ما فعله هذا الشاعر المشروخ بين تركيته وميوله الغربية، وهي حالة تركية واضحة حتى قبل وصول أتاتورك، وسأكتفي بتسجيل رأي صديق الشاعر الذي يعمل في جريدة الجمهورية، الذي قال له عندما كلفه بالمهمة: إذا كنت تريد رؤية تركيا الحقيقية ومعرفة مشاكلها عن قرب فما عليك إلا الذهاب إلى "قارص" حيث ستجد، بالإضافة لما سبق، زميلتنا الجميلة في الجامعة "إيبك" هناك بعد أن انفصلت عن زوجها. الرواية تعرض فعلا، بشكل مكثف ورمزي، مشاكل تركيا التي مهدت لوصول حزب العدالة والتنمية عام 2002 إلى السلطة، فنتعرف على فقر البلد وحجم الفساد، ونشاط الإسلاميين، والفقر الروحي للعلمانية الأتاتوركية التي لم يبق منها إلا الشعارات الفارغة من أى مضمون إلا الرغبة في التسلط، ودور العسكر في ذلك، وصولا إلى نبوءة الكاتب بانتحار هذه العلمانية بترتيب منها نفسها.
ما يهمني في هذا المجال هو وصف كاتب "الاحتقار" البطلة الرئيسية "إيبك" لزوجها السابق "مختار"، العلماني السابق والذي رأي مصالحه في الإسلام السياسي الصاعد فتحول إليه وأصبح مرشحه للانتخابات البلدية القادمة، ولكن تهديد الانقلابيين له جعله ينسحب من الترشح. بعد أن أصبح "مختار" زوج الجميلة "إيبك" عضواً من أعضاء جماعات الإسلام السياسي حاول أن يدفع زوجته لوضع حجاب الرأس فرفضت ذلك، وكان الخلاف بينهما قد بدأ قبل ذلك، عندما لم يستطيعا إنجاب ولد، فأهملها. في ذلك الوقت استضاف الزوج أحد "الثوار" الإسلاميين في بيته، والذي لاحظ الشرخ القائم بين الزوج والزوجة الجميلة فاستغله وأقام علاقة معها، ويبدو أن احتقار الزوجة لزوجها وصل إلى ذروته لتقديرها أن الزوج يعرف بالعلاقة ولكنه بقي صامتا تحقيقا لمصالحه السياسية والمالية، مما أوصل الزواج إلى نهايته الحتمية وهي الطلاق.
ويعرض الكاتب بمهارة عالية، حالة أخرى من "الاحتقار" التي مارستها البطلة "إيبك" ضد البطل، الشاعر الذي حاولت أن تحبه، وقررت أن تسافر معه إلى ألمانيا، بعد فتح الطرق، إلا أن الشاعر يخون القائد الإسلامي، الذي كان أصلا عشيق "إيبك" فيرشد الشرطة على المكان الذي تخفّى فيه، حيث يتم قتله وإخفاء جثته، وعندما تعلم "إيبك" بذلك في آخر لحظة قبل السفر، تقرر هجرانه والتخلي عن فكرة السفر، باحتقار يليق بجاسوس فقط.
في مشهد آخر من مشاهد الاحتقار، الذي يمارسه البشر ضد من فقد كرامته وعزته النفسية وقوته، رأيت منذ حوالي ثلاثة أسابيع لقطات من فيديو يعرض محاولة رئيس وزراء العراق التقرب من الرئيس الأمريكي أوباما في أحد الاجتماعات الدولية، فلا يلتفت إليه رغم أنه كان يجلس بقربه. لو كان العبادي رئيس وزراء حقيقي للعراق لكان جعل الرئيس الأمريكي، وغيره من زعماء العالم يجرون وراءه، ولكن عندما جعل من نفسه ألعوبة بيد إيران وأمريكا، فطبيعي أن "يحتقره" أوباما، ولا يراه.
ختاما، لا بد من قول الفكرة الأساسية التي دفعتني لكتابة هذه المادة، ألا وهي وضع المعارضة السورية ووزنها الحقيقي عند "أصدقاء" الشعب السوري، وعند الدول الداعمة ماليا وسياسيا لها. أن نظرة متفحصة ولكن حقيقية تجعلنا نصل إلى استنتاج بسيط ولكنه مرّ وهو أن هذه الدول "تحتقر" المعارضة السورية، ولا تثق بها، ولم تعد تراها أصلا إلا إذا كان على هذه المعارضة أن تقوم بخدمات صغيرة لهذه الدول.
والسبب في انتشار حالة "الاحتقار" هذه، هو سلوك المعارضة نفسها، وعلاقاتها مع بعضها، وخيانة بعضها للبعض الآخر، وذلك على مستوى الأفراد ومستوى الجماعات، كل ذلك لأنها ضعفت أمام رغباتها السلطوية وتخلت عن أهم مراكز قوتها، ألا وهي أنها كان يمكن أن تكون ممثلة لأعظم ثورة عرفها العصر الحديث، ولكن للأسف، خسرت كل شيء ولم تجنِ إلا "الاحتقار" من شعبها أولا، ثم من بقية شعوب العالم ودوله.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية