دعاني يوم الأحد الماضي، وهو يوم عطلة في كندا، أحد الاصدقاء من أصل دمشقي، للغداء عنده. رغم محاولة رفضي وتبريري ذلك بأن الوقت ليس وقت غداوات وولائم وإنما وقت انتخابات تركية، ووقت عقد مؤتمرات للسوريين، ويجب متابعة هذه الأخبار، إلا أنه أصرّ على الدعوة، قائلا: يمكننا متابعة ذلك أثناء الغداء، سواء كان الغداء في الحديقة أم داخل البيت، فالأولاد معهم أجهزتهم الإلكترونية، ويمكننا تخجيل أحدهم ليعيرنا "تابليت" لمتابعة نتائج الانتخابات التركية، في جانبها السوري، وكما تعرف، لسنا في سوريا لكي يتحكم في فضائها الإنترنيتي رامي مخلوف أو غيره، فالفضاء المعوماتي هنا متاح للجميع بحكم القانون، لذلك لا تقلق وتعال نملأ بطوننا بطيبات الطعام، وفي إحدى الاستراحات من الطعام يمكننا متابعة مجريات مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية، ونتائج الانتخابات التركية، ومتابعة الخطوات التحضيرية لمؤتمر الرياض أيضا الذي سيعقد بعد مؤتمر القاهرة وقبل مؤتمر موسكو، وأنت تعرف أن من عادات بلادنا، التي اضطرتنا الحياة الغربية التخلي عنها، القيلولة اثناء الطعام، قبل معاودة الهجوم من جديد على الحلويات والفواكه.
رغم المياه الغازية التي شربناها للمساهمة في التهضيم، إلا أن كمية الأكل التي التهمناها، والتي تعكس حالة جوعنا للديمقراطية على النمط التركي، وقهرنا مما يصيب الشعب السوري من براميل، فقد أدركنا أن لا حلّ لأزمة "كروشنا" إلا بالسير على الأقدام، رغم مخاطره، فغامرنا بتجاوز الحديقة العامة القريبة المكتظة بصبايا شبه عاريات خرجن بحثا عن الشمس، بساطهن العشب الأخضر ولحفافهن السماء الزرقاء، وقد توزعن في أنحاء الحديقة كالألغام الزراعية الموقوتة التي يلقيها النظام على أهالي درعا هذه الأيام، يكفي أن يمر الرجل الشرقي بجانب إحداهن كي ينفجر هو.
كانت الحديقة، مثل الكثير من حدائق مونتريال العامة التي تشرف عليها بلدية المدينة، تحتوي على ملعب لكرة السلة وآخر للتنس، وحديقة رملية للأطفال مع ألعابها، ولكن كان يعيبها مرور سكة القطار في طرفها الشمال، المحاطة بسياج من شبك معدني يحمي الناس من التعرض لخطر القطار.
ولكي لا يشوه السياج منظر الحديقة، ويؤذي النظر فقد تم غرس مجموعة من الشجيرات حوله من الطرفين فتحولت مع الأيام إلى ستار جميل وكثيف من الأشحار القصيرة، وكأنه غابة صغيرة أو دغل من الشجيرات تسمح للشخص الدخول بينها والاختفاء عن العيون الفضولية.
تجاوزت وصديقي سكة القطار من المكان المخصص للعبور، منتقلين بذلك إلى الطرف الآخر من الحديقة، حيث يوجد مسبح لهواة الغوص في المياه الحلوة وليس في بحر الأفكار المالحة والسوداوية، ومن حسن الحظ أنه لم يوضع في الخدمة بعد، لهذا تجاوزناه بسرعة ودون عوائق نفسية كان يمكن أن توهن من نفسية كهلين عربيين، أحدهما على الأقل وهو أنا يعشق الجمال النسائي، وخاصة في المسابح.
وصلنا إلى نهاية الحديقة في اللحظة التي علا نباح كلب يحاول الإفلات من يد سيدة جميلة ووجهه ونظره باتجاهنا، فقال صاحبي: هيا بنا نبتعد، فأنت تعرف حساسيتي من الكلاب المدللة والتي لا تستطيع رميها بحجر كي تبعدها عن ساقيك، وإذا فعلت فستكون مجرما ومن ألدّ أعداء حقوق الحيوانات، ولا تستبعد أن تقوم السيدة برجيت باردو بملاحقتك قضايا، من باريس، بتهمة اعتداء "عربي" علي حق أحد الكلاب في العض.
أثناء العودة، كنا لا نزال نناقش حقوق الكلاب في العيش الحر الكريم بعيدا عن الاضطهاد، وإذ بصديقي يشير إلى دغل قرب سور سكة الحديد، اقتربنا أكثر وإذ بنا أمام رجل خمسيني المظهر يضع أركيلته أمامه وبقربه براد صغير وأمامه طاولة صغيرة قابلة للطي عليها فنجان من القهوة العربية، ويدير ظهره للناس ووجهه باتجاه سكة القطار.
كان من الواضح أن الرجل عربي، ويريد الابتعاد عن جميع الناس. قلت لصديقي: الدمشقيون ماهرون في المفاوضات، حاول معه لتعرف مصابه، قد نستطيع مواساته، وقد نتعلم منه شيئا، وقد نفهم سرّ هذه العزلة في مدينة تعج بكل ما يتمناه الانسان.
قال صديقي: الحقيقة لا أجرؤ على الاقتراب منه، أنتم الحماصنة أجرأ. قلت: ربما هو سوري وقد فقد الأمل في كل شيء بعد هذا الخراب الذي يعمّ البلد، وربما هو سوري وكان من المتحمسين للثورة ثم اكتشف كيف تحولت لتجارة عند بعض السوريين فقرر العزلة، وقد يكون من محبي السلمية وعندما ازدادت دعوات الذبح على الهوية قرر "النفاد بجلده" والبقاء بعيدا، وربما ببساطة لم يعد يتحمل نق زوجته فتركها في البيت وجاء يتأمل سكة القطار وهو يدخن أركيلته حالما باليوم الذي سينقله هذا القطار إلى طرف من أطراف الدنيا بعيدا عن الزوجات ونقهم.
وقلت لصديقي من وحي خبراتي: ربما الأمر أبسط من كل تخميناتنا، فقد تكون زوجته قرفت منه ومن أركيلته فطلبت منه مغادرة البيت، وليس أمامه إلا الطاعة !
حسم صديقي تردده، ففضوله ورغبته في معرفة أصل وفصل الرجل، ولماذا هو في هذه الزاوية المخفية، دفعته للمغامرة والاقتراب من الرجل وبادره بقوله: السلام عليكم، فرد الرجل السلام دون أن يدير رأسه لرؤية من يسلم عليه. قال: هل نستطيع الجلوس قليلا إذا لم يكن الأمر مزعجا لك؟ قال الرجل: طبعا، فالحديقة ليست ملك أبي وهي لجميع الناس. جلسنا في أقرب مكان له. كانت إحدى تخميناتنا صحيحة، فهو سوري الأصل، أما ما لم نستطع تخمينه فهو سبب وجوده هنا وحيدا.
قال الرجل، بعد أن لمس فينا انسا: تركت البيت منذ ساعات الصباح الأولى، فقد اختلفت مع زوجتي حول الانتخابات التركية، كنت مع أردوغان، وكانت هي في صف حزب الشعوب الديمقراطية بعد أن اكتشفت فجأة ديمقراطيتها وأصولها الكردية، قائلة إن تأييدي لأردوغان يدل على نزعتي الديكتاتورية التي لم أستطع التخلص منها رغم مرور السنوات على وجودي في مجتمع ديمقراطي، كما كشفت عن نزعاتي العثمانية التوسعية.
لذلك وخوفا من أن يتأثر زواجنا بنتائج الانتخابات التركية قررت البقاء خارج المنزل حتى المساء، أي إلى ما بعد إعلان النتائج النهائية.
تركنا الرجل وعدنا دون أن نتكلم، فقد خشي كل منا أن يكون موقف زوجته مغايرا لموقفه من الانتخابات الأمريكية القادمة، عندها ستحل الكارثة بنا فرديا وعائليا، خاصة أننا قريبون جدا من واشنطن.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية