الأسدُ والتفكيرُ بسوريَّة الصُّغرى د. علي حافظ *

أخذ الأسد يغيّر استراتيجيته بداية عام 2014، ويفكر باستعادة أكبر قَدرٍ ممكنٍ من المناطق التي خسرها في معاركه مع الجيش الحر؛ ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف لجأ إلى طرقٍ وأساليبَ مختلفة: أمنيَّة، عسكريَّة، تفاوضيَّة، تصالحيّة، تبادليّة...وركَّز جهودَ قواته على القيام ببعض العمليات العسكرية الناجحة من أجل السيطرة الحازمة، أو التقدم الهجوميّ البطيء، أو العمل الدفاعيّ الناجح، أو التراجع عند الضرورة.
حقّقتْ هذه الاستراتيجيةُ بعضاً من النجاحات المهمَّة؛ ففي اللاذقية، عندما أصبح الثوار يشكِّلون تهديداً كبيراً على مناطق الطائفة العلوية الحاكمة، بعد تحريرهم مدينة كسَب وعدداً من القِمَمِ الجبلية الاستراتيجية في آب 2013، وَوُصولِهم إلى مياه البحر المتوسط، قامت قوات الأسد بعملياتٍ عسكرية هجومية مُعاكسة، استطاعت استعادةَ المدينة والقِمم التي حرَّرها الثوار سابقاً.. كذلك أحرزت تلك القوات النظامية وغيرُ النظامية، بالتعاون مع الميليشيات الشيعية اللبنانية، تقدماً ملموساً ضد الثوار في منطقة القلمون التي تقع على مُفترَق الطريق السريع الواصل بين دمشق وحمص وعلى طول الحدود اللبنانية الحسَّاسة؛ حيث نفذَّت عملياتٍ هجوميةً بطيئةً واسعة النطاق، معتمدة على القوَّة الناريَّة الثقيلة، في حين شنَّت الطائرات الحربية هجماتٍ ضاريةً ضدَّ المدنيين في مدينة يبرود. ورغم مقاومة الثوار العنيفة، إلا أنها تراجعت في النهاية وسقطت أغلبُ مناطق القلمون بأيدي القوات المهاجمة؛ دون أن ننسى الخسائرَ الكبيرة التي تكبدتها أثناء القتال هناك، وما زالت تتكبَّدُها حتى الآن.
ومن منطقة السفيرة الواقعة شرقَ حلب، بدأ الجيش الأسديُّ حملته الشرسةَ لمحاصرة أجزاءِ المدينة المحرَّرة، وذلك لفرض شروطٍ قاسيةٍ ومُذِلّةٍ على المقاتلين والمدنيين الباقين فيها، بعد أن فتح تنظيم "داعش" طريقاً بالقرب من جبهاته أمن حماية لجوانبه ومؤخرته. هنا استخدم استراتيجيةَ "دبيب النمل"، التي تعتمد على التسلل البطيء نحو أكبر قدرٍ ممكِنٍ من المناطق، ومن ثمَّ الانسحاب إذا صادف مقاومةً عنيفة من قِبل الثوار، مع محاولة الاحتفاظ بمنطقة أو منطقتَين تحت السيطرة.
وهكذا وصل إلى قرى باشكوي ورتيان وحردتنين في ريف حلب الشمالي، لكنه انسحب من القريتَين الأخيرتَين وبقي في باشكوي. وفي لحظةٍ اعتقد الكثيرون أنَّ الأسد قاب قوسين أو أدنى من تحقيق انتصارٍ تاريخيٍّ على قوى الثورة المسلحة، وأنه في القريب العاجل سيضرب حصاراً خانقاً على مدينة حلب، وبنفس الوقت سيفكُّ الحصار عن بلدتَي نبّل والزهراء الشيعيتَين الواقعتَين شمالي المدينة!
رغم أنه عجز عن القيام بذلك، إلا أنه حقّق بعض النجاحات التكتيكية هناك على مدى العام المنصرم، حيث تمكن إلى حدٍّ ما من تحقيق الاستقرار على بعض الجبهات العسكرية، وأحرز بعض التقدم في مناطقَ كثيرةٍ بفضل الدَّعم الحاسم لحزب الله والمرتزقة الشيعة؛ بعدما انشغل الثوار لفترة طويلة بمقاتلة تنظيم "داعش" الإرهابي، مُحاوِلين إيقافَ تَغوُّلِه في مناطق الريف الشرقي والشمالي..
لم تَجْرِ الرياح كما تشتهي سفنُ الأسد؛ إذ عجز تماماً عن حسم المعركة لصالحه رغم تفوقه الميداني العسكري؛ ومع بداية عام 2015 تغيرت الأمور نوعاً ما، وأخذت الكفَّة تميل شيئاً فشيئاً لصالح الثوار، لاسيما بعد تحرير مدينة بصرى الشام ومعبر نصيب الحدودي في الجنوب السوري.
وقد تكون هذه الاستراتيجية قد فشلت أو انتهت تماماً بعد تحقيق عددٍ آخر من الانتصارات المذهلة في شمال غربي البلاد وتحرير مدن إدلب وجسر الشغور وأريحا ومعسكري القرميد والمسطومة، ليقترب من إحكام السيطرة على المحافظة كاملة.
كذلك فُتحت معاركُ جديدة لتحرير سهل الغاب في حماه، والهجوم من جديد على قمة النبي يونس الاستراتيجية في ريف اللاذقية الشمالي... إنَّ تقدمَ الثوار في أماكن أخرى؛ يؤكد وصول النار إلى مناطق الطائفة العلوية ـ القلعة الأخيرة للنظام!
هذه التطورات جعلت الأسد يغير استراتيجيته السابقة، ويعمل للحفاظ ـ قدر الإمكان ـ على ما استرجعه من أراض، أي أقلّ ما يمكن تحصيله من الجغرافية السورية (صيغة مختصرة للدولة السورية) تكون عاصمتها دمشق، وتتصل بالمنطقة الوسطى، وبالمدينة الشمالية حلب، وبالمنطقة العلوية في غرب البلاد, عبر مَمَرَّاتٍ وطرق بعضُها آمنةٌ وبعضها الآخر غير آمنة تماماً.
من الظاهر أنَّ الأسد لم يعد يهتم كثيراً بسورية الكبرى (بحدودها الجغرافية السابقة)، بعدما خرجت مناطق واسعة منها عن سيطرته، وأصبح جُلُّ اهتمامه مُنصَبّاً على الاحتفاظ بما بقي لديه من مناطق، أو ما يمكن تسميته بـ"سورية الصغرى".. هذا يعني أن الأسد بدأ تطبيق "المرحلة الثانية" أو ما سمي بـ"الخطة ب"، التي تتضمن بعض الانسحابات، مع إبقاء السيطرة على العاصمة دمشق والمدن ذات الأقليات الداعمة له كحمص وحلب وحماه والسويداء والمناطق الساحلية.
إنه يقوم بكل هذا من أجل بقاء سلطة طائفته ـالمالية، الأمنية، العسكريةـ التي هي مصدرُ الخطر الأكبر على جميع السوريين.. إنه سبب كلِّ ما حصل ويحصل في سورية والمنطقة من مجازر وكوارث وأزمات؛ ولو رحل منذ البداية لما وصلنا إلى وصلنا إليه، وكنا الآن مثل تونس نحتكم إلى صناديق الاقتراع بانتخاب مرشحينا للرئاسة.. لو أنه كان رجلاً عاقلاً ويملك أدنى درجات التفكير لما عمل بنا هكذا!
من يعتقدُ أن الأسدَ هو عاملُ ضمانٍ واستقرار في سورية والمنطقة هو مخطِئٌ جداً؛ لأنه هو سببُ كل المشاكل التي مرَّت وستمرُّ بسورية الجريحة؛ وبوجوده لا يمكن أن يكون هناك حل أبداً!
وفي النهاية حتى لو كانت لديه سيطرةٌ فعالةٌ على ربع أو ثلث مساحة البلاد، فهذا لا يكفي لينجو بجلده.
ومن الطبيعي أن يلجأ إلى تنفيذ "المرحلة الثالثة"، وهي الانسحاب كليّاً نحو المناطق الساحلية غربَ نهر العاصي، مع الاحتفاظ بحمص كعُقدة مواصلاتٍ ومركزٍ لوصول المواد البترولية الخام، المَحميَّة بتضاريسَ طبيعيةٍ وعرةٍ تكون صعبةَ المنال على من يهاجمها، وتحت حماية دوليةٍ ـروسية، إيرانية، أمريكية، إسرائيليةـ تضمُّ أغلب الأقليات السورية التي وقفت بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر مع الأسد، أو التزمت الصمتَ والرمادية بعد تَعسكُر الثورة!
* كاتب سوري ـ مدير تحرير مجلة "المرآة" التي تصدر في المناطق السورية المحررة
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية