كان يفترض أن تنتهي قصة داعش في الجنوب قبل نهاية 2014، إلا أن مراوغة زعيمها الملقب بـ"الخال"، ولعبه على وتر عاطفة أهل حوران أجَل المعركة التي تشهدها اليوم قرى حوض اليرموك.
قبل أشهر ظهر "الخال" زعيم لواء شهداء اليرموك في شريط مصور منشداً لتنظيم الدولة الذي بايعه نحو 150 عنصراً من اللواء، تنبهت حوران ولا نكذب إن قلنا إن الجوار الأردني وحتى الإسرائيلي أيضاً تنبه لخطر اقتراب التنظيم من حدوده.
جرت محاولة لاستيعاب ومنع أي مواجهة مسلحة بوساطة المحكمة المحلية (دار العدل)، إلا أن أحداً لم يكن يريد أن يصدق أن "داعش" أضحت على أرض حوران، فاختارت قوى الثورة قبول مزاعم نفي مبايعة "اليرموك" لتنظيم "الدولة" وجرى تجميد المعركة بعد سلسلة من عمليات الخطف المتبادل.
بالمقابل جرت معارك صامتة بين لواء العمري و"داعش" في منطقة اللجاة، حيث تحدثت أنباء شحيحة عن مقتل عشرات من عناصر التنظيم.
بوادر ظهور "داعش" جنوباً لم تقتصر على منطقة حوض اليرموك، بل سبقتها أخبار عن وجود التنظيم في مناطق الصريخي والشقرانية وبير القصب والأصفر على تخوم السويداء.
اليوم حيث تشتعل المعارك جنوبا في مدن وقرى الشجرة وتسيل وجملة ونوى وسحم الجولان وحيط، حيث تقاتل جبهة النصرة مع الجيش الحر لمنع تمدد ظاهرة "داعش" جنوباً، يغير التنظيم فجأة على قرى الشياح والشومرة والعلالي في منطقة اللجاة، في عملية يبدو أنها محاولة لفك الطوق عن جماعة "الخال" ومحاولة لاختراق حوران والتمترس فيها.
ولعل منطقتي اللجاة بين درعا والسويداء والصريخي بين ريف دمشق والسويداء تشكلان هدفاً استراتيجياً للتنظيم للاستفادة من الطبيعة الوعرة، والكهوف والمغاور الموجودة، ما يؤمّن درعاً طبيعياً يصعب عملية طرد التنظيم حال سيطرته عليهما، ويجعلهما نقطة تمركز بهدف التمدد على كامل أرض الجنوب.
ثمة عدة أخطاء تم ارتكابها من قبل القوى العاملة في الجبهة الجنوبية وكذلك الدول المؤثرة والمتأثرة، وصولاً إلى ما هو حاصل اليوم.
ـ الخطأ الأول: هو تأجيل المعركة أكثر من مرة، بدفع من وساطات محلية، وعملاً بحسن النية، وهو ما لا ينفع مع تنظيم "الدولة" الذي بات معروفاً بقدرته على الانتهاز وقلب الأحداث والانقلاب على أي اتفاقات، وهو بطبيعة الحال يستخدم سياسة العمل تحت الأرض و"الكمون" بانتظار الانقضاض على من حوله بصرف النظر عن توجهاتهم.
ـ الخطأ الثاني: ترك جزر للنظام على أراضي محافظة درعا ومنها مناطق تداخل سكاني كما هو الحال في مدينة درعا، وكذلك مواقع عسكرية واستراتيجية مثل اللواء 52، وبلدة "قرفا" على الطريق الدولي بين دمشق وعمَان، ولا شك أن إهمال تطهير هذه المناطق خلق جوَاً من الإحباط، وفرصة لتجنيد العملاء، كما وفر فرصة للتشكيك بنوايا الجيش الحر وداعميه، ما سهل في كثير من الحالات عمليات اغتيال مجهولة التفاصيل، وساهم في إعطاء ذريعة لعمل مجموعات متشددة تطرح نفسها كبديل غير مشكوك فيه لدى شريحة من المجتمع المحلي المحبط.
ـ الخطأ الثالث: تأخير عملية تسليم المناطق المحررة لإدارات مدنية، وإشغال المجموعات المقاتلة بتفاصيل الحياة اليومية للناس مثل الإغاثة وتأمين الرعاية الصحية والخدمات، وقد تسبب هذا التأخير في تعطيل قدرات المجتمع ومنع ظهور كوادر مدنية مؤثرة، وكذلك إضعاف دور الشخصيات والواجهات الاجتماعية في بيئة اعتمدت طويلاً على نمط تلعب فيه العائلة الكبيرة والقيم المجتمعية دور الوسيط في التعامل مع المشكلات الحياتية، والعمل بالتوازي مع سلطات القانون.
ـ الخطأ الرابع: غياب التواصل المعلوماتي بين الجارتين السويداء ودرعا نتيجة عمليات التجييش المتعمدة، ومنها حالات الخطف المتبادل مجهولة التفاصيل، وهو ما يفسر محاولات تمدد "داعش" في المحافظتين، كما يعطي مدلولات على أن النظام يقوم بعمل استخباراتي دقيق وشديد الأهمية على الأرض، كما أنه يملك معلومات، ويسهل تنفيذ خطط لضرب أي نوع من التواصل بين المحافظتين.
ما سبق من أخطاء تتحمل مسؤوليته القوى الثورية، بالإضافة للدول الداعمة التي تتعامل مع ساحة الصراع على طريقة مربعات "البازل" إذ تحاول الضغط باتجاه خلق مناطق صراع معزولة دون الأخذ بعين الاعتبار التأثيرات السلبية العميقة، خاصة وأن هناك من يسبح في محيط العقيدة بدون حدود، وهو قادر في مثل حالات التفكك الاجتماعي الحاصلة على تجنيد عناصر ناقمة، وتقديم نفسه بصورة البديل معتمداً على منوال التخويف واختطاف المجتمع بعصى الدين، وهو بذلك ينافس النظام الذي يأسر المجتمع في المقلب الآخر ويمارس أقصى درجات التخويف الطائفي والمذهبي ويمتلك لهذا الهدف أذرعاً أمنية مؤذية.
لا يبدو أن داعش قادرة على المرور بحوران، وهي إن حاولت التمدد بشكل غير معلن، فإن البيئة المحلية جنوباً لن تهضم وجود التنظيم لأسباب تتعلق بطبيعة المجتمع واعتداله ووجود قاعدة مقبولة لمجموعات وفصائل الجيش الحر.
ولعل في تهديد تنظيم "الدولة" لمحافظتي درعا والسويداء معاً رسالة واضحة على أن التعاطي مع الأرض يقوم على أساس الجغرافيا وليس الديموغرافيا، ولا الدين أو المذهب، أي أن "داعش" وإن استخدمت شعار الدين إلا أنها تعمل بأجندة سياسية واستراتيجية اقتصادية، وهي فرصة لأبناء الجنوب للتعرف معاً على طبيعة الخطر المشترك والتعامل معه بعد أن فشل الطرفان في السير بخطوات متوازية في موقفهما ضد نظام الأسد.
ما حصل في الأسبوعين الماضيين يؤشر إلى أن الجنوب سيتغير رغم إرادة القوى الخارجية، إذ لا مصلحة للأردن بأن ترى على حدودها رجال البغدادي يتوعدون بإرهابهم، كما أن إسرائيل غير الراغبة برحيل الأسد ستكون أمام خيارين، إما دعم بشار عبر دخولها بمعركة على الأرض ضد المتشددين وضد المعتدلين في آن معاً، أو أن تكف عن الضغط لدى واشنطن وممانعتها تسليح الثوار وتنظيف المنطقة من "داعش" وقوات النظام، وهي مهمة ستكون ملتبسة على الكثيرين لكنه أمر حاصل بفعل الجغرافيا وبفعل التفاهم السري المزمن بين نظامي دمشق وتل أبيب منذ 1973.
الخلاصة: داعش لن تمر في حوران، إلا أن ظهورها سيقلب مزاج الجوار والعالم.
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية