قبل ما يقارب الأسبوعين رأيت فيديو لأحد رجال "داعش" يجلد فيه أسرى سوريين مؤيدين لنظام الأسد أو معارضين للتنظيم، فلم أعد متأكدا من ذلك ولم أحتفظ بالفيديو المذكور.
في الحقيقة لم أهتم بذلك، فقد فقدنا خلال السنوات الماضية القدرة على التعاطف، وتكلست مشاعرنا مع الوقت، وحتى لا يتهمني أحدهم بالتعميم ويقول إنه ليس هكذا، أكتب معترفا: إنني أسجل مشاعري الشخصية، ولكن من باب الاحتمالات ربما يشاركني بعضهم في لامبالاتي تلك.
ما جلعني أتوقف مطولا عند الفيديو هو مشاهدة طفل عمره لا يتجاوز السنتين، وقد وضع والده، ربما، عصى في يده ليقلد "الجلاد الثوري" في عمله، فيبدأ بضرب الرجل الأسير المركون على الجدار مقيد اليدين، مع سماع أصوات تشجيع للطفل من خلفية المشهد.
عادت بي الذاكرة إلى عام 1969، وهو العام الذي تخرجت فيه في دار المعلمين، وأصبحت في خريفه معلما في قرية "مكحلة" بريف حلب، وهي قرية صغيرة يشتغل سكانها بالزراعة، وخاصة زراعة القطن، وكان موسم القطاف في الخريف.
كان من عادة بعض الرجال العاطلين عن العمل، ربما لأنهم لا يملكون أرضا، يتجمعون مساء أمام الغرفة، التي كانت مدرسة القرية ومكانا لنومي، للتعرف على الأستاذ الجديد وتبادل الأخبار فيما بينهم عن موسم القطن، وعن مَن سيتمكن من الرجال من جمع ما يكفيه من المال لدفع مهر الزواج الجديد أو تكرار زواجه.
مساء يوم من تلك الأيام، جاء إلى "الجَمْعَةُ" رجل أربعيني نحيل، ومعه طفل في الخامسة من عمره، وقد قدرّتُ عمره لأنه لم يكن قد دخل المدرسة بعد، أثناء الحديث، وكان خلف، وهو مستخدم المدرسة، قد حضّر الشاي وقدمه للرجال، أخرج الرجل الأربعيني علبة دخانه "العربي" المعدنية من جيبه و"لفّ" سيكارة ووضعها بين شفتيه، ثم قام "بلفّ" واحدة أخرى وناولها لولده، ابن الخمس سنوات، ثم أشعلها له، بعد أن وضعها الطفل بين شفتيه.
في البداية قلت لنفسي هذه "نكتة" ولكن استمرار الطفل في التدخين، وانصراف الأب عنه لمتابعة حديث الرجال، وضعني في حالة قلق وتوتر شديدين، فالتفت محنقا إلى الوالد أستفسر منه؛ إذا كان الولد مريضا وأن الطبيب قد وصف له الدخان كعلاج، فضحك الأب وبقية الرجال من سذاجة هذا المعلم، الذي بلغ العشرين من عمره، وهو لا يدخن، وقال: لا، يا أستاذ، الولد ليس مريضا، لا سمح الله.
قلت له: لماذا تسمح له بالتدخين إذا؟ قال: "خليه يصير رجال يا أستاذ"!! ورغم أن الفرق الزمني بين الحالة الأولى والحالة الثانية هو أكثر من 45 سنة، إلا أن ذلك لم يمنعني من التساؤل: هل والد الطفل، ابن السنتين، الذي يشجع طفله على ضرب رجل مقيد اليدين أمامه، يفكر بنفس طريقة الفلاح الذي شجع ابنه على التدخين، من أجل أن "يصير" رجل؟؟!! هل أراد الأب أن يجعل من ابنه مجرما، فقط كي يكون فيما بعد رجلا؟
هل كان الأب مريضا، وقد وصف له أحد "الثوريين" أن علاجه الوحيد هو أن يجعل من ابنه الرضيع مجرما، فتزول عنه كافة الأمراض التي ورّثها لنا حافظ الأسد؟ قبل الاسترسال في التساؤلات، التي قد تصبح دون معنى، إذا ما كانت حالات فردية وخاصة، أشير إلى أن ما يتعرض له الأطفال السوريون من تشويه يفوق الخيال، ولا أتكلم هنا عن الحرب التي يشنها الأسد على السوريين، ولا عن التهجير ولا عن قصف المدارس، ولا عن ملايين الأطفال السوريين الذي هجروا مدراسهم المدمرة بفعل البراميل، أو أطفال مخيمات اللجوء، لا أريد التكلم عن كل ذلك، فجميعنا يعرفه وبعضنا تكلم عنه.
أريد الإشارة فقط إلى دور الأهل في عدم تحمل مسؤولية أطفالهم، عندما نشاهد عشرات الأطفال وهم يشاهدون عملية قطع رأس رجل في الرقة بواسطة السيف ويصفقون لها، وكأنهم في فيلم سينمائي، أو رؤية عمليات الجلد لرجال تخلفوا عن الذهاب إلى الجامع لأداء صلاة الجمعة في أحد أحياء حلب، أو تطبيق حد قطع يد سارق بسيط، في الشارع، ربما سرق ليأكل، أو دفع الأطفال لحمل السلاح تباهيا بهم وبرجولتهم "التي تخر لها الجابرة ساجدينا" في الرقة وإدلب وحمص وحلب وريف دمشق وغيرها من المناطق، هذا عداك عن تجنيد الأطفال ودفعهم للمشاركة في العلميات العسكرية.
مما لا شك فيه أن المسؤول الأول والمجرم الأكبر والأساسي عما وصل إليه وضع بلدنا وأطفالنا هو الأسد ونظامه، ولكن هذا لا يخفف أو ينفي مسؤولية المجتمع ومفاهيمنا العامة ودور الأهل عن الخراب العظيم الذي حل ويحل بملايين الأطفال السوريين، وإذا استمرت الحال على ما هي عليه، فإننا نؤسس لمجتمع سيسوده الخراب لأجيال متتالية، حتى لو افترضنا أن نظام القتل قد سقط الآن.
أذكر معاناة أهلنا من أجل تعليمنا، وإبعاد الأمراض عنا ونحن أطفال، حتى لو اضطر بعضهم لبيع ما فوقه وتحته من أجل أولاده، ومع ذلك يجب الاعتراف أن شبيحة اليوم وقتلة اليوم كانوا في يوم ما أطفالا تم تشويه أخلاقهم وتربيتهم بطريقة غير صحيحة، ولكنها أقل سوءا مما يجري الآن. كنت قبل يومين قد كتبت: "تصنيع" أطفال الحرب السورية هو أخطر من كل ما مرّ على سوريا، وما يمكن أن يمرّ.
في النهاية، أرجو أن أستطيع تعطيل هذا "المعمل" قبل إنتاج المزيد من الأطفال السوريين المُخَربين، وذلك بالإسراع في إسقاط هذا النظام المجرم!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية