السويداء وفرصة العقل الأخيرة.. د. مضر الدبس*

لا يَنفصِل الفِعل العقلي والإدراك المعقول عن الواقع، ولا ينفصل كذلك عن المنطق الذي يُسيِّر الأحداث التي تؤثر في مصير جماعةٍ تَرغبُ في البقاء وتريد الحفاظ على مجتمعها وثقافتها وسلامة أفرادها.
ولا يستقيم العقلُ مع الانفصال عن الوطن وعن إرادة أبنائه في العيش بكرامة وحريَّة، ولا مع المنطق الذي يرفع شعار "الخمس حدود تحمي السويداء"، ولا يتعايش العقل مع منطلقات "حمالة البيارق" ومنطلقات حزب البعث والاستبداد وزعبرة المُغرر بهم من الشبيحة. بل من السهلِ على العقل، عندما يُستخدَم ويُحوَّلُ من شعارٍ نظري إلى ممارسةٍ عملية، أن يُدرِكَ أن بقاءَ الجماعةِ الدرزية على المستوى الاجتماعي والثقافي والديني والمناطقي مرتبطٌ بتمسكِ أبناءِ السويداء بالوطن وبالثورة وبخيارات السوريين النزَّاعة للحرية والعيش الكريم، وبأن تعزيز الانتماء السياسي الأسمى: الانتماء للوطن ولخيار الحرية والكرامة ومشروع المواطنة والانتماء للثورة ضد المستبد هو الخيار الوطني والعقلي. وهذا الانتماء السياسي يتعالى ويتسامى على الانتماء الديني أو الأيديولوجي أو المناطقي لأنه ببساطة الضامن الوحيد لبقاء تلك الانتماءات الجزئية في سورية وفي السويداء بشكل خاص. لقد أخلى النظام مؤخراً ساحة السويداء كما أخلى ساحة تدمر سابقاً، وسحب معداته العسكرية الثقيلة والمتوسطة من المحافظة وأخرج الآثار الثمينة منها، ولا تُفهم هذه الخطوات إلا في سياق التسهيل للمجزرة القادمة من الشرق مع تنظيم داعش الإرهابي الذي بدأ معاركه في السويداء من قرى القصر والحقف وبريكة. ولا يمكن تفادي هذه المجزرة إلا بتلافي التفكير بنفس الطريقة الذي ساقت المحافظة إلى حدود الفناء، والتي تتحدد في نقطتين رئيستين: الأولى تتمثل في منطق العُزلة والنأي بالنفس عن الأحداث الدائرة في سورية والانفصال عن ثورة شعبها العادلة ذات البدايات السلمية والعفوية، وتتمثل الثانية في منطق البناء على الوهم الذي سوَّقته آلةُ الاستبداد في أن النظام حامي الأقليات وفي أن المواطن السوري في السويداء هو "أقلوي درزي"، ولهذا ليس عليه التدخل في ثورة السوريين لانها ثورة "الأكثرية السنية".
ويجب اليوم نسف هذا الفهم غير العقلاني وغير الواقعي أكثر من أي يومٍ مضى، ولا يتم هذا النسف إلا عن طريق تكوين الوعي الأكثر قرباً للعقل، والذي يلتصق بالوطن ويستمد منه بقاء الجماعة، ويسعى من أجل دولتة التي تضمن تنوعه الثقافي والديني والعرقي، ويساهم بفاعلية في بناء مجتمعه المدني، ويُدركُ بأن السويداء لا تنفصل عن محيطها وعن طُلَّاب الكرامة والحرية من السوريين. وعندما يتبلور هذا الوعي يقوم بإنجاز عملية بناء المفاهيم والسلوكيات استناداً إلى الواقع المُعاش والمَلمُوس والمَرئي بوضوح لمن أراد أن يرى خلال السنوات الثلاث الأخيرة، الواقع الذي بيّن عدم استعداد النظام وعدم قدرته وعدم رغبته في الدفاع عن السويداء، وكما يقول أهل السويداء باللهجة العامية: ما نكذّب شوف عيونّا ونصدق "عين الزمان".
ويبدو أن أهم ما نقرأه في هذا الواقع اليوم أن محاربة داعش وتفادي المجزرة القادمة يبدأ من محاربة النظام وإعلان السويداء حرة بالتعاون مع ثوار سورية الشرفاء وبشكل خاص مع ثوار درعا الذين ينطلقون من مُنطلق وطني. وإن هذا الفهم يمثل فرصة العقل الأخيرة لتفادي الأسوأ ولإيقاف الانتحار الثقافي والمذهبي الذي يمكن أن تنساق له السويداء. ومع بداية الثورة تمتع الشارع السوري بذكاءٍ فطري كان قادراً على التنبؤ بألاعيب الاستبداد الطائفية منذ الأيام الأولى، فاستبقها برفعه لشعار: "الشعب السوري واحد"، ويتعلق الأمر اليوم بإعادة تفعيل ذكاء الشارع الفطري في المجتمعات التي تعرف نفسها بأنها "أقليات" لأن هذا الذكاء مُعطَّل عندهم منذ بداية الثورة في سورية، مُعطَّلٌ لأنه مهزوم أمام أكاذيب النظام وخططه التضليلية وأمام تغييب توصيف (المواطن/السوري) الحامي للكرامة والمكافح ضد الظلم لصالح توصيف (الأقلوي/الدرزي) الذي يحتاج للحماية ويتوهم أنه سيجدها عند قوى الظلام والاستبداد. وتعطيل هذا الذكاء صنع تشبيحاً أقلوياً وعزلةً أقلوية ولن يقود إلا إلى الانقسام والفتنة والتهلكة والمجزرة.
ولا ينفي كل ما سبق أيضاً أن جميع السلوكيات التي تنطلق من مقاربة تقوم على فكر الأكثرية وتتخلى عن المقاربة الوطنية للثورة لصالح مقاربة طائفية ضمن مفهوم القوم الأكثرية، هي أيضاً سلوكيات ستقود أصحابها للعزلة وللتهلكة عاجلاً أم آجلاً، فالفكرة الوطنية والإيمان بسوريتنا هي الضامن الوحيد لبقاء أي انتماء آخر في المستقبل ولجعله انتماء سليما ومتوازنا.
*كاتب سوري - نائب الرئيس التنفيذي لحزب الجمهورية- مشاركة لــ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية