كلنا ولا شك يذكر المثل الدارج: (إلحقِ البومَ يدلّك على الخراب)، وبصرف النظر عن الوجه الذي يستخدم فيه هذا المثل أو استخدام البومة في المفرد والبوم في الجمع أو التذكير والتأنيث، فليس يمكن قراءة الواقع الاقليمي اليوم دون تذكر البوم!
إن المتنقل بين بقاع الدنيا، والمتابع لأحوال الأمم يلاحظ التبدلات الإيجابية التي طرأت على حال كثير من الشعوب والدول في العقود الأخيرة، وتجاوزا لألمانيا واليابان اللتين خرجتا من الحرب العالمية الثانية مدمرتين بشكل كامل ولا ثروات باطنية فيهما أصلاً ورغم ذلك نهضتا تلك النهضة الأسطورية، وللدول التي خرجت من هذه الحرب (فائزة) ولا فائز في الحروب، وللصين وكوريا الجنوبية وجنوب أفريقية وأستراليا وتايوان وهونغ كونغ ذات الظروف الخاصة، فإنني أودّ التنويه بشكل خاص بكل من ماليزيا وتركيا والهند والبرازيل وحتى سنغافورة ومن تبقى من مجموعة النمور الآسيوية، إذ إن نهضة هذه الدول الأخيرة ليست وليدة العقود الأخيرة وإنما هي وليدة السنوات الخمس عشرة الأخيرة!
ترى لماذا أركّز على السنوات المذكورة؟ لأنها بالذات هي السنوات التي تولّى فيها بشار الأسد الحكم في سورية إرثاً عن أبيه حافظ الأسد.
يقال إنه عندما قامت (ثورة 8 آذار1963) في سورية، وتبعتها في 1970 (الحركة التصحيحية)، التي تولى بموجبها الأسد الأب مقاليد الحكم رسميا، كانت سورية في ذلك الحين متقدمة في اقتصادها على كوريا الجنوبية! ويقال أيضا إن مهاتير محمد باني ماليزيا الحديثة ومهندس نهضتها زار سوريا في ذلك الحين، ولشدة إعجابه بدمشق وعد بأن يجعل ماليزيا مثل دمشق! لا أستطيع التأكيد أو النفي، لكنه في ذلك التاريخ كان البوم قد اعتلى أشجار سورية وبدأ ينعق: (أمة عربية واحدة) ولم يألُ جهدا أبدا في تفتيت العالم العربي كلما تثنّت له الفرص! (ذات رسالة خالدة) وبقيت هذه الرسالة باطنية لا يعلم مضمونها إلا من أطلقها، لكن آثارها كانت في غاية الضرر! (التحرير) ولأجله أخرجت مسرحية حرب تشرين 1973! (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) وبذلك كممت الأفواه حتى عن تنفس الأكسجين عندما يشاء الجلّاد! (بناء الاقتصاد) وبموجبه أنشئت حسابات سرية بأموال الشعب السوري ولم يدخل النفط والغاز يوما في حسابات الموازنة السورية! (المنظمات الشعبية) واستخدمت كأدوات دعائية تنفيذية، وعند الضرورة، رديفة للأجهزة الأمنية! (قوة الشعب) وتبين لاحقا أن الشعب هم طائفة خاصة، ترعاها مجالس خاصة، بموجب توصيات خاصة، وبشروط خاصة، وتوجب على البقيّة التبعيّة العميّة!
أهم إنجازات تلك المرحلة على الإطلاق كان ربط شرط البقاء بالتبعية للبوم والغربان. ولذلك في عام 2000م دعي أحد مجالس الغربان ليجتمع في البرلمان، كانت الغربان تعلم أن المرض أجهز على البوم الأكبر، ولكنهم انتظروا حتى ألقى كلمةَ النعي غرابُهم الأكبر (عبد الغادر غدورة، وفقاً للهجة المحلية لأحد أعضاء المجلس في جلسة انتخابية بثّتها وسائل الإعلام)، وعندها أجهشت الغربان في بكاء مصطنع لا يؤهلهم للعب دور (الكومبارس) في أي عمل كوميدي. ثمّ وخلال دقائق معدودة قرر المجلس تعديل الدستور ليصبح سنّ القبول لترشيحات الرئاسة أربعة وثلاثين بدلا من أربعين عاما، كانت هذه سن الولد، فمغادرة الأب كانت قطعية وغير قابلة للتأجيل فلم يستطع التريث حتى يبلغ ولده السنّ القانونية للترشيحات الرئاسية.
هذا ما جرى في مجلس الغربان علنا، وكان ذلك تنفيذا لما تقرر في مجلس البوم السري، ففي المجلس السري دُعيَ قادة الأجهزة الأمنية لرفع الجاهزية ووضع قادة القطعات العسكرية رهن الإقامة الجبرية، وعرف الجميع أنه قد بدأ إحصاء الأنفاس، وأنهم –وبغض النظر عن الرتب- يملكون فقط البكاء والتباكي والإبكاء لحين صدور أوامر أخرى.
لا يعلم أحد ماهي الوعود والالتزامات التي قطعها الولد، ولا الجهات التي قطعت لها هذه الوعود، لكنه وخلال أيام صار الولد ضابطاً فريقاً قائداً عامّاً أميناً قطرياً رئيساً، وصار للبوم زعيم جديد، واعتلى البوم الجديد أعلى ما تبقى من الأشجار الخضراء وألقى خطبه العصماء، وتحدث بتركيز عن (التطوير والتحديث) في المحافل المحلية، وزاود وألقى مواعظه على الملوك والزعماء في المحافل العربية، وجرت محاولات شاقّة لترويجه في المحافل الدولية!
وشيئا فشيئا راح ينشئ مجلسه الخاص، أقصى الكثير ممن كان يقول لهم: (عمّو)، عندما كان يلعب في حدائق قصر الرئاسة وردهات مكاتبه، واستبدلهم ببغاث الطير من رفاق لهوه ومرحه، أولئك الذين شاركوه مؤامرات الشباب واقتناص الفتيات الجاهزات للقنص أصلا وأنواعا أخرى من لهو المدللين، وانتشر هذا الفريق الجديد في ذرى مفاصل الدولة (المزرعة)، وشرعوا في التهام كل ما طالته مخالبهم، وتحولوا من بغاث طير الى فريق من البوم، هذا الفريق هو من عجّل بدفع الأمور في سورية إلى ما آلت إليه في عام 2011، وهو ذات الفريق الذي وجده بشار الأسد حوله عند نشوب الثورة ناصحاً ومشيراً وموجهاً، وأحيانا آمراً، فضمن هذا الفريق تواجد أخوه ماهر وأولاد خالته ذو الهمة وحافظ ومحمد عاطف وأولاد خاله رامي وأمثاله وفي مراتب متأخرة أبناء عمّه وأبناء عمته وفي الجانب الأكثر سرية تواجدت أنيسة وشهرزاد ولونا وهديل وأسماء و...، باختصار شديد كانوا جميعهم أولاداً من الناحية العقلية، أولاد البوم، وكان على رأسهم كبير البوم المسمى بالقائد.
لا شك أن الثورة أربكت حسابات من حَسِبَ أنه القائد فعلاً، لذلك شرع يستمع الى نصائح عشيرة البوم التي كانت ومنذ سنوات قد انفصلت عن العالم البشري لتعيش في أبنية ظاهرها قصور عاجية وحقيقتها محافل للخراب... ما جرى بعد ذلك كان تحقيقاً لما تنبأته بومة ذات يوم عندما قصدت أختاً لها تطلب ابنتها لولدها، فاشترطت البومة الثانية على الأولى كمهر لابنتها مائة مدينة خربة. قالت البومة الأولى: ليس هناك خرب كثيرة حالياً، ولكن إن بقي هذا الحاكم إلى العام القادم، فسوف أقدّم لكي مئات المدن الخربة.
مصطفى القاسم -مشاركة لـ "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية