أنا رئيس كل السوريين.. ميخائيل سعد

قال لي الحمصي "أبو صادق" يوما، وكنت قد أصبحت تاجرا كبيرا، وكان هو كفيلي التجاري في البنوك التي اقترضت منها مالا: اسمع يا صديقي، أعتقد أنه حان الوقت كي "تشارك" أحد المسؤولين، أو أنك لن تكبر أكثر من ذلك، أو قد يكون نصيبك السجن قريبا.
كان من عادة الرجل أن يدعوني كل عدة أشهر للعشاء وشرب كأس من العرق في "الكاردينيا" وتبادل الأحاديث. وكان يرفض رفضا قاطعا أن أدفع ثمن العشاء، ولو لمرة واحدة، فهو ومنذ أن كنت عاملا عنده قبل سنوات، ينظر بعين الشفقة لي، ويعتبر نفسه مسؤولا عني عندما نكون معا. ورغم محاولاتي المتكررة للتوضيح له إنني أصحبت من الأغنياء، وإنني أستطيع إعالة نفسي وبعض الأصدقاء في مسألة الطعام والمشروبات، إلا أنه كان يصرّ على الدفع، ويكرر أنه يستمتع بدفع قيمة العشاء أحيانا عندما يكون مع أصدقاء يحبهم، بعكس الوضع عندما يقوم بذلك من أجل "المصالح" ومع الواجبات الاجتماعية. تابع "أبو صادق" المهم أن تنتبه يا صديقي، فأنت لا تعرف كل أنواع "الذئاب" في هذه الدولة وطرق عملها، فتصوراتك المثالية عن الحياة والناس تمنعك أحيانا من رؤية الحقائق كما هي، افتح عينيك جيدا، إذا كنت تريد أن تكبر، عليك أن تدفع.
جرى الكلام السابق في بدايات عام 1988، وكان حينها تاجر الكتب الكبير والعريق "النوري" قد وقع بين يدي السلطة الأسدية نتيجة خلافات بين شبكات الفساد في هذه السلطة نفسها، وتم فرض ضريبة عليه بحدود 20 مليون ليرة سورية، عليه تسديدها للخزينة، وقد تم توقيف أحد أولاده ووضعه في السجن بانتظار أن يدفع ما عليه. في ذلك الوقت التقيت ابن النوري الآخر، شقيق السجين، فسألته لماذا لا تدفعون المال الذي في ذمتكم للمالية؟
فقال: شو صاير لعقلك، نحن ندفع هذا المبلغ الكبير للمالية؟
نحن سندفع أكثر من ذلك، ولكن لشراء المسؤولين وليس لخزينة الدولة، وسيخرج أخي.
عندها تذكرت صديقي الحمصي "أبو صادق"، وتذكرت عشرات القصص التي تؤكد أننا لا نعيش في دولة وإنما في مزرعة شخصية.
والكلام عن الدفع للمسؤولين لحل الصعوبات التي تواجه المواطن بدل تطبيق القانون يشير إلى غياب مفهوم الدولة وثقافة الملكية العامة من عقل المواطن، ويتحول كل شيء في الوطن إما "لي" أو "لك"، وهذا ما عمل عليه حافظ الأسد وورثته، فتحولت سوريا إلى "سوريا الأسد" دون أن يعترض عليه، عمليا، أحد. وفي الواقع فإن سلوك حافظ الأسد في هذا المجال قد لا يكون اختراعا شخصيا له، فلننسَ مسألة الفساد الذي عممه المقبور وتابعه الوريث، ولنحاول ان نرصد بعض الأمثلة التي تشير إلى غياب مفهموم الملكية العامة واحترامها:
في طفولتي الريفية، في خمسينيات القرن الماضي، أذكر بعض المشاجرات التي كانت تحدث بين فلاحي قريتنا بسبب تقسيم مياه الري، فقد كان بعض الفلاحين، عندما لا يكون دورهم في الري، يفضلون ويعملون على رؤية مياه النبع في النهر على أن تكون في أرض جارهم.
وقد روى لي أحد الأصدقاء الأردنيين، إن الحكومة الأردنية كانت تقوم بزراعة الأشجار في الأحياء الجديدة، فيمر المواطن الأردني ويقوم بكسر هذه الشتلات، وهو يجتاز الطريق، دون مبرر، فقط لأنها ليست ملكه ولن تكون. وكان يحصل الشيء نفسه في سوريا، فقد قال لي أحد الحماصنة إنه صباح اليوم التالي لاعتصام الساعة الشهير، رأي بأم عينيه كيف تحطيم كل عدادات السيارات التابعة للبلدية، وقد يكون في ذلك نوع من التعبير عن كره الحكومة، ولكن يجب أن لا ننسى، مع ذلك، أن هذه العدادات هي ملكية عامة، وبما أنها كذلك، فهي ليست لنا.
وفي متابعتنا لهذا الموضوع يمكننا فهم سرقة الآثار ومؤسسات الدولة والمعامل في مناطق النظام ومناطق الثوار، كجزء من نفس العقلية التي ترى في كل ما يملكه الآخر ملكية شخصية عندما نستطيع الاستيلاء عليه، وفي السياق تفسه يمكن ان نفهم وجود "سوق السنة" في حمص لبيع ما تم تعفيشه من الأحياء السنية الثائرة. ولا أستبعد أبدا، أن نرى في حال انهيار النظام العام، سوق "المسيحية" وسوق "العلوية" وسوق "الدروز" بل وقد يصل الأمر، في المناطق الضيقة إلى رؤية سوق "الموارنة" عند الأرثوذكس، وسوق الخياطيين" عند عشيرة "الحدادين" العلويتين، وسوق أهل المدينة عن أهل الريف وعكس كل ذلك ممكن ايضا..
كنا قد رأينا ذلك في قلب نظام المحاصصة الطائفية والعشائرية عند حافظ الأسد ما يشبه ما سبق الإشارة إليه، وقد رأيت ما يشببه في مؤسسات المعارضة السورية. وستبقى، للأسف، عقلية الغزو ونهب القبيلة الأخرى عند الناس جميعا، إلى أن يأتي نظام يستطيع أن يبني بلدا لكل السوريين، عندها يمكن للسوري، أي سوري، أن يقول هذه دولتي، ولن أدفع رشوة لمسؤول، لأن الرشوة ستخدم هذا المسؤول فقط وتضر بي، وعندها يمكننا أن نرى رئيسا لكل السوريين وليس لفئة منهم، ورئيس حزب سياسي لكل أعضاء الحزب، ورجل دين لكل المؤمنين وليس للمقربين منه فقط.
ويبقى السؤال: هل ستنجز الثورة السورية جواب هذه الأسئلة؟
أنا أجزم أن الجواب هو "نعم"، ولو كان ذلك بعد أجيال، ولكن الثورة هي ما جعلته ممكنا.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية