تقول الناقدة سوزان برنار أنَّ قصيدة النثر هي «قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور...خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية» وهذا التعريف لبرنار أوجز قصيدة النثر فبالفعل هي قطعة مضغوطة يمكن تحليلها لأنها تختزل الكثير في سياقاتها وكما هي رغبة المؤلف في البناء خارجاً إي تعبر عن مشاعره وأحاسيسه وفي مجموعة الشاعر أوس حسن التي عنونها ( فجر النهايات )،والتي صدرت مؤخرا في بغداد عن دار يوتوبيا للدراسات والنشر ب104 صفحات من القطع المتوسط ،و تضمنت 34قصيدة،تميزت بعض هذه النصوص بإشارات عميقة ودلالات حسية،مع بعض القصائد التي تميزت بأفق مفتوح على أجناس أدبية أخرى من خلال الصورة والبناء الدرامي،وما يهمنا هنا أن نسلط الضوء على عدة قصائد تميزت
باختزال للكلام وابتكارات شعرية مكثفة،يقول أوس حسن في قصيدته سمفونية الرحيل:..
نثرت دموعها ذات يوم
على وسادة الحلم
وهي تطرق نوافذ المدن الليلة
وتعانق هدأة الموج في قوارب المتغربين
والريح موطن الغريب ودرب التائه إلى السؤال
التائه المثقل بمرايا المكان
وهي تذوب في شهقة القلب
وردة.. وردة
من عطر الذكريات
وسحر الحنين
والحنين أغنية المنفى البحر
والبحر قصيدة من دموع..
خطاب يوجهه الشاعر للذائقة العامة،والمتلقي الحاذق، يتحدث فيها عن فتاة لم يحدد هويتها اكتفى بالإشارة لها بقوله نثرت دموعها، ثم وصف حالتها بطريقة اختزالية مختصرة السرد،حتى أصبح نصه الشعري رشيقا بما يكفي وفيه انزياحات جيدة مثل التائه إلى السؤال ووردة من عطر الذكريات والحنين أغنية لمنفى البحر. إن كل هذه الابتكارات تعود لقدرة الشاعر في قوة خياله،والتحكم باللغة وصناعة الشعر منها،وكما يقول ايلمان كراسنو ان الشعر الحديث لا يميل الى احتواء الاستعارات السهلة بل الى عملية صنع الخيال الشاق اي خلق لغة ثانية تتفوق على اللغة المتداولة فلغة الشعر تصيب من يسمعها بالدهشة لما فيها من ترتيب في تركيبتها الفنية
على الرصيف العاري
جرح في الذاكرة
أطفال متسولون 

ظلال تضيء عتمة الفقراء
غربة تتشظى
وموت دائم
على الرصيف العاري
ضباب كثيف
أحلام هاربة
قديسون ومجانين من عهد روما
وزمن طاعن في النسيان
على الرصيف العاري
أم تودع طفلها عند نهاية الدرب
عاشقان يتبادلان الورد والمنفى
غريبان في الظلال
يتبادلان الأرض والسماء
وحديقة تقطف إحزانها الريح
احتوى النص على مجموعة أطروحات متفرقة وكان عبارة عن صور مختلفة لا تلتقي في سياق واحد وقد جهد الشاعر ان يجعل نصه متعدد الأفكار فكان كل بيت عبارة عن نص مستقل في ذاته يمكن تفكيكه واكتشاف شفراته ففي قول الشاعرأحلام هاربة تعطينا هذه المفردات دلالة على ان الشاعر يصف الجزع والانكسار في داخله أو بشكل عام من خلال التقاط المشاهد الممزوجة بالحزن اليومي من خلال وجوه الناس ومعانتهم وأما زمن طاعن في النسيان يقصد منها رحلة الوقت الطويلة ليس في شعر اوس حسن طابع فلسفي معرفي فقط بل هناك جوانب جمالية فنية وظفها مثل حديقة تقطف إحزانها الريح و غريبان في الظلال يتبادلان الأرض والسماء وقصيدة تتوارى خلف التلال كلها معاني لها أبعاد ودلالات متعددة حتى تجعلك تشعر انك إمام لوحة تشكيلة متنوعة
من بوح النايات
التي وزعت أبجدية الألم
على هذه الأرض
من لهفة الشوق التي نتخر عظامي
من صرخة القمر في شفاء الورد
من ذوبان الليل في شعرك نجمة... نجمة
من بكاء النهر الحزين في غابات رمشك
ومن صدى المرايا العتمة التي تسيل
على وسادة الأحلام كل ليلة
أنادي باسمك...
هناك علاقة شبه جدلية بين الشعر والحكمة والخيال فالحكمة توجد بكثير من الشعر،والخيال يعد عنصرا مهما يميز العمل الإبداعي ويرتقي به إلى مصاف الكمال ،وفي كتابات اوس حسن هناك عناصر الجمال والخيال والمعرفة واختزالات اكتشفتها من خلال عملية الاشتباك مع نصوص مجموعته فجر النهايات وفي نصه الذي اقتطعت جزءا منه والذي مطلعه من بوح النايات التي وزعت أبجدية الألم وجدته ينتقل عدة انتقالات في النص ويصنع تركيبة لغوية مدهشة فهو يتحول من لهفة الشوق التي تنخر عظامه إلى صرخة القمر في شفاء الورد ثم يصف ذوبان الليل في شعر حبيبته نجمة ..نجمة،هذه اللغة العالية والنقية تعيدنا إلى الزمن الشعري الجميل الذي افتقدناه بسبب الحروب والضجيج الثقافي المتهافت،يبقى لأوس حسن اسلوبه الخاص والمميز فهو لم يبتعد أيضا عن الكلاسكية الشعرية،كما نرى في نصوصه الأولى التي ضمها كتابه فجر النهايات،لكن الفكرة المطروحة كانت حداثوية وتحمل أبعادا عميقة في الهم الإنساني والوجودي من خلال فكرة الأغتراب والتي أراد لنا أن نكتشف مدلولاتها وايحائتها من خلال نصوصه،أما في نصوصه الأخيرة فهو يقترب من قصيدة النثر الحكائية ذات الصورة والشخصيات والزمن المرتبط بالحدث،جاءت لغته عفوية انسيابية،تميل إلى المباشرة الجميلة تارة،وإلى التكثيف الرمزي تارة أخرى،صانعا عالما خاصا له وواقعا متماهيا مع الألم الإنساني من خلال تأملاته الشعرية. وضع أوس حسن كل هذه المفارقات بقوة وذكاء فريدين؛ ليجعل لمنتجه الإبداعي اكبر عدد من الجمهور والقراء،ويكون متفاعلا حقيقيا في الساحة الأدبية.
ناقد وكاتب عراقي*
عدي العبادي* - مساهمة لـ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية