مخطوطات "حجي بكر".. "لا إسلامي" ولو علقوا كل المصاحف برقبته، "بعثي" ولو سلخوا جلده

جهد جبار ذلك الذي بذله الكاتب الألماني "كريستوف رويتر" وهو يقوم بإعادة الأمور إلى نصابها وتسمية الأشياء بمسيماتها الصريحة، فيما يخص تنظيم "الدولة"، في عمل لم يكن ليروق لفئتين من المرتبطين بالأزمة السورية، أولهما معتنقو الفكر الجهادي في شكله السطحي المأخوذ عن "الإصدارات" وتوجيهات "الأمراء" و"الشرعيين"، وثانيهما -وهنا قد تكون المفاجأة الصاعقة- معسكر النظام وموالوه.
لقد عرى "رويتر" التنظيم من أي صفة يمكن أن تجعله يمت للإسلام بصلة، وكرر وصفه له بأنه تنظيم إجرامي ومافيوي وتسلطي وقمعي، اتخذ الدين وشعاراته سلما لبناء "هيكل" شيطاني، قد لايقل خطورة على الإسلام والمسلمين من مشروع "هيكل سليمان".
كلمات "رويتر" العميقة، وتوصيفه الدقيق، وربطه للأحداث ببعضها، ينبغي -أو يفترض على أقل درجة- أن يكون قد سبب صدمة صاعقة، لأرباب الفكر الجهادي المسطح، وللنظام وأعوانه.. صدمة تجعل الفريق الأول يفيق من خداع نفسه والآخرين، وتدفع الفريق الثاني للكف عن أكاذيبه التي تسوق التنظيم بأنه تشكيل ديني متطرف، في حين أن حقيقته التي لم تعد تقبل اللبس تقول إنه تنظيم إجرامي، بنته عقلية إجرامية، مهووسة بألاعيب المجتمع المخابراتي وأساليبه القذرة، وقد غلب عليها أن من يتقن هذه الأساليب ويطبقها شخص خارق الذكاء والدهاء، يستحق الاحترام والقيادة، وليس كائنا منحطا شاذا، يستأهل الحجر عليه وإبعاده عن الناس حتى لاينقل إليهم سمومه.
لقد سلّمت فئة من "الجهمور الجهادي" قياد ذهنها للسطحيات، وجعلت نصوص "الأمراء" و"الشرعيين" و"إصدارات" التنظيم، مقدمة على نصوص الشريعة المبثوثة في الوحيين (القرآن والسنة)، وهي نصوص تعلي شأن الجهاد، ولكنها تضبطه بضوابط صارمة.
ولعل من أكثر ما يتردد على ألسنة محبي الجهاد والمحرضين عليه والمرغبين به، الحديث الشريف الذي يصف الجهاد بأنه "ذروة سنام الإسلام"، وهو حديث يعطي الجهاد منزلة استثنائية لا تضارعه فيها أي شعيرة أو عبادة أخرى، ولكنه بالمقابل يحمل تحذيرا "خفيا"، وتنبيها "لطيفا"، إلى أن "الذروة" لا يبلغها ويعتليها إلا من أخذ بمجامع الفقه، ولا يستطيع الثبوت عليها إلا من أدام إخضاع سلوكه في الحرب لتوجيهات الشريعة، وهو بالتحديد ما يمكن استنباطه من أحداث وأحاديث رويت عن شخصيات فقهت الجهاد كما ينبغي أن يكون، وليس كما تحب هي أن يكون، ومنها الحادثة المنسوبة إلى الصحابي "علي بن أبي طالب" عندما كف سيفه عن رجل كان يهم بقتله، في اللحظة التي بصق هذا الرجل في وجه الصحابي، ولما سئل الصحابي الجليل باستهجان عن تبرير فعلته، أجاب أنه خشي أن يقتل الرجل ثأرا لنفسه، بعدما كان يقاتله في سبيل الله.
وعلى الطرف النقيض، سلّم "الجمهور الموالي" عقله لدعاية "جوبلزية" الشكل، أسدية المضمون، رمت تنظيم "الدولة" بتهمة التطرف الديني، وانسلت هاربة من حقيقة أنه خليط نظرية بعثية مخابراتية، اتفق على تطبيقها نظامان حكما سوريا والعراق، رغم ما بدا بينهما خلافات.
إن الوثائق التي خلفها "حجي بكر" وانكشفت رغما عنه، فعلت ما لايمكن أن تفعله آلاف الكتب والمحاضرات في بيان الماهية الحقيقية للتنظيم، ذلك أن الوثائق تمثل "شهادة من الداخل"، وليس أي "داخل"، بل رأس الهرم، الذي لولاه ما اتخذ التنظيم هذه المنحى المفرط في السرية والإجرام، المبني على شراء الذمم والاختراق والتجسس والتصفية الجسدية، وهي كلها صفات تجعل من "الدولة" النسخة الحديثة من عصبة "الحشاشين".
وقد تذكرت وأنا أستعرض تقرير "رويتر" وما نشر من مخطوطات "حجي بكر" لاسيما حول ابتزاز أرباب الإجرام والميول الشاذة.. تذكرت وثائق صادرة عن جهاز الأمن السياسي التابع لنظام بشار الأسد وقعت بين يدي، ومنها وثيقة تحصي "أصحاب السوابق" في إحدى المناطق، وتدون تهمة كل واحد أمام اسمه بشكل صريح، حتى ولو كانت تهمة من قبيل "الفعل المنافي للحياء"؛ ما يثبت أن التنظيم ومخابرات النظام رضعا من ثدي واحد.
لقد عكفت أجهزة المخابرات بأشكالها المختلفة على استخدام أسلوب الابتزاز في تجنيد من سقطوا في حمأة الخطيئة، ولكن هذا التجنيد كان غالبا ضد الأعداء الحقيقيين للدول والشعوب، حتى جاءت الأنطمة القمعية (والعربية أولها) فـ"طورت" أساليب الابتزاز و"صقلتها"، موجهة هذا السلاح الشيطاني لتجنيد جواسيس على شعوبها.
ولكن الذي حصل مع تنظيم "الدولة" على يد "حجي بكر" وأشخاص آخرين مثل "أبو علي الأنباري"، و"أبو محمد العدناني"، دشن مدرسة جديدة من الشيطنة، يجلس فيها "شياطين" المخابرات تلاميذ بين أيدي أصحاب "اللحى المستعارة"؛ ممن برعوا في صنع "خلطة سرية" لاكتساح العقول واستلابها.
لقد أسقطت مخطوطات "حجي بكر" كل صبغة أو حتى شبهة إسلامية عن تنظيم "الدولة"، وسلبت من منتسبيه ومناصريه كل محاولة لإعادة "أسلمته"، حتى ولو علقوا في رقبة تنظيمهم كل المصاحف الموجودة في العالم، علما أن مقر "حجي بكر" الذي كان محشوا بالوثائق وأجهزة اللابتوب والاتصالات، لم يكن فيه مكان لنسخة قرآن واحدة!، حسب تقرير "رويتر".
أما معكسر النظام فليس أحسن حالا من "الدولاويين"، لأن مخطوطات "حجي بكر" كشفت عمق تقاطع بل وتطابق التنظيم مع النظام، فكرا وتطبيقا، وجردت النظام ومروجي نظريته من دول وتنظيمات وأفراد.. جردت كل هؤلاء من إمكانية نفي "بعثية" التنظيم ومخابرايته، حتى ولو سلخوا عنه جلده!
لكن الأهم من هؤلاء وهؤلاء (الدولاويون والنظام)، هو ذلك الطرف الذي تُتوسم فيه علامات "الجهاد على بصيرة"، وهو طرف مختلط، فيه تنظيمات وأفراد يمارسون "الجهاد" فعليا، وفيه منظرون يمارسونه نظريا، وجلّ هؤلاء على شجاعتهم وبصيرتهم، لم يستطع أن يقول ما قاله الألماني "رويتر" في التنظيم، فوقفوا عند حد وصفه بتنظيم "الخوارج"، وأفتوا بقتاله ودفع "صياله" على هذ الأساس، فيما تقول الوقائع إن نواة التنظيم الصلبة التي يدور في فلكها عناصره، هي نواة غير "إسلامية" التوجه، وليس لمفردة الدين في قاموسها من مكان، إلا بقدر ما تخدم هذه المفردة الهدف الإجرامي.
لقد قصر أصحاب التيار الجهادي "المتبصر" كثيرا في حق أنفسهم وحق تنظيماتهم، وقبل ذلك بحق الأبرياء في سوريا والعراق وكل مكان دخله التنظيم، حين أعطوا لتنظيم "الدولة" توصيفا من ضمن منظومة المصطلحات الشرعية (الخوارج)، وهذا بحد ذاته جعل التنظيم حتى في عيون مخالفيه قريبا من دائرة الشرع والدين، في حين أنه كان خارجها مطلقا، بحسب ما تدل وثائق "حجي بكر".
ولو كان لدى أصحاب "الحل والعقد" في التيار الجهادي إجماع على توصيف التنظيم، كما هو، باعتباره تنظيما إجراميا مافيويا مخابراتيا بعثيا، وإصرار على طرق هذا "المسمار" باستمرار، بدل الاحتماء بمصطلح "الخوارج"، فلربما وفرنا –نحن السوريون بالذات- كثيرا من فاتورة الشقاء، وفاتورة التضحيات التي دفعها قادة ومقاتلون شرفاء على يد التنظيم، بينما كانوا منهكين بالبحث عن "العلامات الفارقة" بين شيئين متطابقين، اسمهما النظام والتنظيم.
لقد كان خطأ كارثيا أن تقاس عصابة إجرامية مثل تنظيم "الدولة" على مسطرة "شرعية"، فيسمى المنتمون لها "خوارج أو ينعتوا بـ"كلاب أهل النار"، فقد خدم هذا التوصيف "الدولة" وجعلها تدفع حجة "خارجيتها" بحجة مضادة تصف مناوئيها بأنهم "مرجئون"، أو "مرتدون"، وكان لهذه الحجة المضادة فعل سحري في قلب المفاهيم وتشويهها، ونقل محل النقاش بعيدا عن النقطة التي يخشى التنظيم منها، ويهرب من تداولها، وهي نقطة ارتباطه بالمخابرات والفكر البعثي التأمري الاجتثاثي.
ولو كان مدار فتاوى منظري التيار الجهادي المعتبرين منصبا على كشف الوجه الإجرامي، ووضع التنظيم في خانته الحقيقية (البعثية المخابراتية)، مع دعم ذلك بالمعطيات، لضاق هامش المناورة "كثيرا" أمام "الدولاويين" والنظام ورعاته، الإيرانيون منهم بالذات.
الآن وقد اختلف "تصور" أكثرنا، بدرجات متفاوتة، فقد آن لنا، ولاسيما أصحاب البصيرة من "الجهاديين"، أن نغير "حكمنا" على التنظيم، ونعطيه ما يستحق من التوصيف دون زيادة ولانقصان، مع تقديم الشكر الجزيل لـ"حكمة" الكاتب الألماني "كريستوف رويتر"، الذي دلنا على "ضالتنا" ولم يعد أمامنا سوى الأخذ بها، لأننا الأحق بها.
إيثار عبدالحق - نائب رئيس تحرير "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية