ما إن فتحت باب الشقة الصغيرة المكونة من غرفة نوم وصالون حتى دخل رجل متوسط الطول، مربوع القامة، يحمل تحت إبطه محفظة كتب قديمة، مد يده قبل الدخول مصافحا ومعرفا بنفسه "الشيخ مدحت"، فرحبت به ودعوته للدخول.
كنت أعرف من هو، فنحن على موعد مسبق كان قد تم ترتيبه من قبل أحد الدعاة الشباب من طائفته الدينية الجديدة، التي تبشر وتنشط في أوساط المهاجرين الجدد. وكان الشاب، في أثناء النقاش، قد اعترف أنه عاجز عن الرد على أسئلتي، وأنه سيحيلها إلى من هو أقدر منه وأكثر تعمقا في الدين، فكان أن أخبرني، بعد عدة أيام، أن "شيخ" الطائفة العربي، وهو لقب رجل الدين عندهم، سيزورني لمتابعة النقاش والرد على تساؤلاتي، وها هو الآن يدخل شقتي.
ما إن وضع قدمه اليمنى داخل الشقة حتى وقف مشدوها، فقد صدمه منظر الكتب المصفوفة فوق بعضها من الأرض وحتى منتصف الجدران، وكان قد وصلني من سوريا حديثا حوالي 3000 كتاب، ولا مكان عندي لوضعها، إلا كما هي الآن، فكان أول ما نطق به، بعد أن انفكت عقدة لسانه: الله أكبر، هذا هو الكفر بعينه. تجاهلت ما قاله وكأنني لم أسمعه وطلبت منه الجلوس لتحضير فنجان من القهوة، فقال إنه لا يشرب قهوة، قلت له إذن لنشرب الشاي، اعتذر مرة أخرى، فتركنه وحضرت إبريقا من الشاي ووضعته على الطاولة مع كأسين، بقرب الكتيبات التي كانت هذه الطائفة الدينية المنشقة عن المسيحية قد ألفتها وطبعتها باللغة العربية، بالإضافة إلى مئات اللغات الأخرى. قال: ما هي ملاحظاتك على كتبنا، فقد قال لي "ابننا" البار إنك قد قرأتها وسجلت مجموعة كبيرة من الملاحظات عليها؟
قلت له: اسمع أيها المحترم، قبل الدخول في مناقشة الآراء الواردة في كتبكم ونشراتكم، أريد توضيحا لما نطقت به عندما دخلت بيتي، فما معنى قولك "هذا هو الكفر بعينه"؟
قال: إن كثرة القراءة تفسد الإيمان وتقود إلى الكفر بالله، لذلك قلت ما قلته.
قلت له: أفهم من كلامك أنكم تفضلون المؤمن الجاهل، الذي يسمع كلامكم وينفذ ما تطلبونه منه دون أن يُعمل العقل فيه؟
قال: الإيمان هو طريق السعادة، وليس المعرفة!
قلت له: ومن قال لك يا محترم إن المعرفة لا تحقق السعادة؟
وعندما لم يرد، تابعت كلامي قائلا: بناء على ما قرأته في هذه الكراريس، وبناء على ما تفضلت بقوله أستطيع الاستنتاج أنك كرجل دين، حتى لو كنت ترتدي ثيابا مدنية، حريص على أن يكون المؤمن بكم وبطائفتكم جاهلا، لأن جهله هو ضمانتكم للاستمرار في استبدادكم وعبوديته لكم. إن موقفك من الكتب واعتبارها الكفر بعينه ليس سببه حرصكم على الإيمان بالله ولا على سعادة البشر، وإنما لكي لا يكتشف المؤمن كمية الخزعبلات التي تمارسونها عليه باسم الدين. إنكم في الواقع تتوجهون في تبشيركم إلى المهاجرين الجدد، الذين يعانون أوضاعا صعبة، نفسية ومالية واجتماعية بسبب الوطن الجديد والثقافة الجديدة والقوانين الجدية، فتستغلون كل هذه الأزمات عنده، وعدم قدرته على التأقلم، للتبشير بما تؤمون به وتريدون دفع الآخرين للإيمان به دون مناقشة عقلية، حتى لو اقتضى الأمر تكريس الجهل واعتباره شكلا من أشكال الإيمان بالله.
قال رجل الدين: أعتقد أنك ابتعدت في كلامك عن هدف اجتماعنا، إننا نلتقي لمناقشة الأفكار الواردة في الكراريس فقط.
قلت له: لقد قرأت كل الكراريس الموجودة على هذه الطاولة، ولم أجد فيها من حيث الجوهر ما يخالف موقفك من اعتبار المعرفة كفرا، لذلك أعتذر عن المناقشة، فقد وصلت إلى قرار نهائي: يمكنك أن تشرب الشاي وتنصرف من بيتي، فإذا كان عليّ الاختيار بين "هولاكو" وبين الكتب فأنا أختار الكتب.
عندما قام داعش بحرق مئات آلاف الكتب في مكتبة الموصل دفاعا عن "الإيمان"، تذكرت "هولاكو" عندما دخل بغداد وقام جنوده بتدمير "دار الحكمة"، وهي أكبر مكتبة معروفة في العالم القديم، وبرمي المنتجات العقلية للحضارة البشرية المتمثلة في ما أنتجته العقول الإنسانية عامة والإسلامية خاصة في نهر دجلة، بحجة أن "المعرفة هي كفر".
وعندما قرأت قبل أيام قرار منع دخول جريدة "عنب بلدي" إلى بعض المناطق السورية المحررة بحجة أن فيها مقالا لكاتب يتهجم على الإسلام، عدت لقراءة المقال، فلم أجد فيه كلمة واحدة ضد الإسلام، وإنما وجدت سخرية لاذعة من بعض "المسلمين" المتنفذين، الذي يقتربون في ممارستهم، ضد السوريين، من ممارسات نظام الأسد، مع الإشارة الواضحة إلى تفوق نظام القتل الأسدي عليهم، وبما أن هؤلاء "المسلمين" يعتبرون أنفسهم هم فقط الإسلام، وأي نقد لهم هو هجوم على الإسلام، فقد تم منع الجريدة من التوزيع مع تهديدها بالمنع كلما كان فيها مقال للكاتب المذكور، وتذكرت داعش وهولاكو وقول رجل الدين المسيحي، الذي زارني قبل 25 سنة، عندما رأي الكتب:
"هذا هو الكفر بعينه".
ختاما، يجب علينا أن لا ننسى أن الثورة السورية قامت لتقول: إن الاستبداد هو الكفر والحرية هي الإيمان.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية