أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بعد أكثر من تسعة وعشرين عاماً في ظلام السجون، أمضى سمير القنطار ليلة الحرية الأولى تحت قمر سماء عبيه

جنبلاط: لا سلاح لحماية السلاح إلا سلاح الوحدة الوطنية

لم تعتد بعد عائلة سمير القنطار واقع عودته. فالأم والأخ والأخت يحدثونه بشك. فما تراكم لسنوات لن يزول في ساعات، ومن غادرهم فتى يعود رجلاً يتمتع ببنية قوية وإرادة صلبة.

النائب جنبلاط وسمير القنطار في عبيه أمس (مروان طحطح)


بعد ازدحام الاحتفالات والاستقبالات، ألقت سكينة الليل ظلالها على بيت آل القنطار.

اختلى سمير بعائلته الصغرى. خالجه شعور القلق حين ارتفع به المصعد الكهربائي، فخاطب شقيقه بسام ضاحكاً: «هذا سجن درجة أولى».

دخل الجلسة العائلية مصراً على عدم خلع البزة العسكرية. بلهجة فلسطينية، لا يكثر الكلام. يكثف إلى حدود معقدة. حاضر النكتة دائماً. لا ينسى أدق التفاصيل. يشعر الجالسون باتقاد أفكاره وبديهيته اللمّاحة. يعرض سنين الأسر، وكيف طبّق قواعد تخطّي مرحلة الصدمة، هو المصاب بداء الربو، ورصاصة العدو ما زالت داخل رئته. يدخن بكثرة، بعدما حاول الإقلاع، مبرراً «كل إنسان يموت في يومه ولم يعد في العمر أكثر مما مضى». الوالدة تستعيض عن الكلام بالدموع. الشقيقات تتلمّسنه شوقاً وربما للتأكد. سميرة تسارع إلى شراء «البوظة» التي يحبها كثيراً. تطعمه بيدها «فهو لم يتذوقها منذ دخوله السجن». أما شقيقه عبد الله فيسترجع معه للحظات بعض شقاوة أيام الطفولة ويغوصان في الضحك. سأل الجميع كلاً على حدة عن الحال والصحة والأشغال، ووزع النكات يمنة ويسرة. قبّل كل أطفال العائلة وفتيانها، وأخبرهم بعض الطرائف القديمة عن آبائهم وأمهاتهم.
يحلم برؤية منظر شروق الشمس، وهو لم يحظ «برؤية خيوطها الذهبية تتسلل منذ أمد بعيد». يتذكر بين الحين والآخر ذاك الجندي الإسرائيلي الذي بقي إلى اللحظات الأخيرة قبل التحرير يتوعده ويهدده بسلاحه «لقد حفظت تقاسيم وجهه وتصرفاته العنصرية وأنا المكبّل ساعات طويلة في قفص حديدي تحت أشعة الشمس الحارقة».

يلومه البعض على ارتجال الخطاب في ملعب الراية أمام الملايين من البشر، حضوراً ومشاهدين، فيرد: «أنا دائماً هاوي المغامرات، وكما تقولون بعاميتكم اللبنانية «السجن للرجال»، فقد صقلتنا التجربة وتعلمنا الخطابة إلى حد ما».
يخرج إلى الشرفة وينظر إلى الأضواء بذهول. يستذكر قطعة أدبية شفافة كتبها أثناء نقله من سجن إلى آخر داخل فلسطين، حين رأى من نوافذ السيارة العسكرية بعض أضواء المدينة، مما ترك في نفسه عميق الأثر. ومضمونها عن تأقلم الإرادة البشرية مع واقعها مهما كان مؤلماً.
يمضي الليل، والعائلة في غاية الشوق إلى التحدث والنظر إلى عميدها بخليط من الإعجاب والفخر والخوف واللوم «ألا يكفيك يا سمير سنوات الاعتقال الطوال حتى تتوعد اليوم بالعودة إلى الكفاح؟». إجاباته هادئة و«استراتيجية»: «صراعنا معهم لا ينتهي إلا بانتصار ساحق لطرف على آخر، وبما أننا أصحاب الأرض، حتماً نحن من سينتصر».
مع إطلالة نور الصباح كان ينظر إلى كل ما حوله بإعجاب النظرة الأولى: الأبنية والسيارات والازدحام وتنقّل الناس، ويقول ضاحكاً: «اعذروني أنا بحاجة إلى كم يوم أو أسبوع حتى أستوعب ما يحدث».
(تغطية: عامر ملاعب)

مهرجان حاشد في عبيه

ورغم أنه لم ينم، استفاق سمير في اليوم التالي على عرس ثان لاقاه المحتفون به من مناطق عدة، منطلقين من عرمون بمواكب وصولاً إلى باحة مقام السيد عبد الله التنوخي، حيث أقيم له احتفال حضره النائب وليد جنبلاط، يرافقه نجله تيمور ونواب اللقاء الديموقراطي، والوزير طلال أرسلان يرافقه الشيخ نصر الدين الغريب، وممثّلو: الأمين العام لحزب الله الوزير محمد فنيش وعضو المكتب السياسي محمود قماطي، النائب ميشال عون الدكتور خليل حمادة، الحزب السوري القومي الاجتماعي محمود عبد الخالق، شيخ عقل الطائفة الدرزية نعيم حسن القاضي الشيخ غاندي مكارم، وفاعليات حزبية وروحية واجتماعية وحشد كبير من المواطنين.
وألقى جنبلاط كلمة حيا فيها القنطار «باسم التراث العربي والإسلامي المقاوم، تراث بني معروف حماة الثغور في كل لحظة.

باسم العمامة البيضاء التي واجهت الاحتلال والاستعمار والغزاة، من جبل لبنان إلى جبل العرب، ووقفت دائماً بالمرصاد للحفاظ على الأرض والعرض. باسم رفاقي، باسم قافلة الشهداء، شهداء الحزب التقدمي الاشتراكي والحركة الوطنية اللبنانية، باسم الجبل، جبل الأحرار، جبل العروبة والعيش المشترك، جبل كمال جنبلاط الذي حصدته رصاصات الغدر، وما أدراك يا سمير ما أصعب الغدر وما أمرّه وأحقره على الأحرار والمناضلين.

 ليت ما ناله كمال جنبلاط كان نعمة الاستشهاد في ساحات الوغى والقتال كالمئات والآلاف من المجاهدين والمقاومين والثوار. وباسم بيروت المقاومة العربية، باسم شهداء الثورة الفلسطينية والتلاحم الفلسطيني اللبناني، كقافلة الشهداء العائدة اليوم من فلسطين المحتلة، باسم القرار الفلسطيني المستقل، باسم القرار الوطني اللبناني المستقل، باسم ثورة الأرز ثورة الاستقلال في 14 آذار، باسم عميد الشهداء، شهداء ثورة الأرز الرئيس رفيق الحريري».
وحيا قافلة الشهداء «الذين أخرجوا من مقبرة الأرقام ليواروا في أضرحة الأبطال إلى جانب الأبطال»، متطلعاً «إلى اليوم الذي يحرر فيه الآلاف من المجاهدين العرب والفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، إلى اليوم الذي يفك فيه الحصار عن غزة والضفة وتزول الحواجز والمستعمرات والحائط، وتكون القدس عاصمة دولة فلسطين، ويقرّ حق العودة دون تردد أو مساومة».
وبعدما رحب «بممثل المقاومة الإسلامية ممثّل حزب الله في أرض بني معروف، محمد فنيش»، قال: «لا تناقض بين الحرية والاستقلال والسيادة والمقاومة، لا تناقض بين الصمود والازدهار والمقاومة، وبين صيغة وكيان لبنان والمقاومة، لا تناقض بين العدالة والمقاومة والمحكمة والمقاومة، وبين سياسة لبنانية رسمية في عدم الانحياز لا شرقاً ولا غرباً والمقاومة، وبين اتفاق الطائف والمقاومة، ولا تناقض بين علاقات صحية واحترام متبادل واعتراف بين لبنان وسوريا والمقاومة، وأخيراً لا تناقض بين الدولة والمقاومة بعد الاتفاق تدريجاً على إتمام الخطة الدفاعية بالحوار. وأخيراً لا سلاح لحماية السلاح إلا سلاح الوحدة الوطنية».

باسم السيد نصر الله

ثم ألقى فنيش كلمة قال فيها: «ما كان لنا أن نعيش كل هذا الفرح لولا صمود البطل سمير، وتصميمه وإرادته وصبره، ولولا عزم المقاومة وقيادتها ومجاهديها على استعادة حرية أسرانا. من الطبيعي أن يقابل هذا الفرح شعور العدو بالمذلة، لأن إطلاق سراح الأسرى لم يأت إلا إذعاناً لرأس المقاومة وقيادتها، وإلا ترجمة لانتصارها على العدوان والهمجية في تموز من عام 2006»، مؤكداً أن «المقاومة الإسلامية لم تأت من فراغ وليست استثناءً في تاريخ هذا الوطن وتاريخ الأمة، بل هي إكمال لمن سبقها في خط الجهاد والشهادة والتضحية. وأنتم يا أبناء هذا الجبل كنتم من السبّاقين، أنتم يا بني معروف».
وتابع، كما «استطعنا أن نحرر الأرض في عام 2000 واسترداد جثامين الشهداء والشهداء الأحياء من أسرانا، لا بد من إكمال الطريق لاسترداد ما بقي من أرض محتلة من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. نحن بحاجة إلى استكمال دور المقاومة ونهجها، ولا يتعارض ذلك أبداً مع مشروع الدولة ودورها ومع الجهود الدبلوماسية. نحن منفتحون ونؤيّد كل جهد يوفر علينا التضحيات، ويكون ذلك إنجازاً للجهد السياسي وللفعل المقاوم، لأن الجهد السياسي الذي لا يرتكز على معادلة القوة هو جهد عبثي من دون طائل وإضاعة للوقت وتفريط بالحقوق».
ورأى أن المرحلة «تتطلب منا جميعاً بعدما تجاوزنا صفحة الخلافات والتباينات، مرحلة الوفاق، مرحلة مدّ الأيدي وانفتاح العقول والقلوب، مرحلة نحن بحاجة فيها للاستفادة من الوقت، لأنه يكفي هذا الوطن ما أهدرناه من وقت في السجال والنكاف والمكايدة، بعدما تجاوزنا خلافاتنا وأصبحنا شركاء في القرار في حكومة وحدة وطنية، وبعدما أرسينا ونفذنا وطبّقنا معظم ما تم إيراده في اتفاق الدوحة. علينا أن نكمل هذا الاتفاق ونحن نمد أيدينا بقلوب مفتوحة وعقول منفتحة من أجل أن نتعاون على طيّ صفحة الماضي مهما كان التباين».
وبعدما رأى «أن الحوار هو الطريق من أجل أن يكون لدينا قوة تحرير وقوة دفاع عن الأرض»، قال: «نحن من يطالب بالإسراع في الحوار، ونحن من يطالب بوضع استراتيجية دفاعية. ليس لدينا أي عقدة تجاه أي رأي، ولا نخشى الحوار لأننا أصحاب منطق وقضية ودعاة حق. نحن يا أستاذ وليد بك جنبلاط، لن ننسى أبداً تاريخنا المشترك، ولن ننسى أبداً ما فعلناه معاً، ونتطلع إلى أن نصنع معاً مستقبل هذا الوطن، لأننا لا نريد إلا أن نكون جنباً إلى جنب في معركة استرداد الحق والكرامة وإرساء مشروع دولة قوية قادرة عادلة يطمئن إليها أبناء الجبل كما يطمئن إليها أبناء الجنوب كما أبناء البقاع وبيروت والشمال».
وألقى أرسلان كلمة استهلها بالقول: «ما أطيب اللقاء بك يا سمير، وأنت تضيف مدماكاً من صوان صلب لا يكسر على مداميك الجهاد التي وضعها الآباء والأجداد على امتداد 1210 سنوات من عمر ذاك التكليف الشرعي المجيد، من عمر المهمة التاريخية التي أوكلت للأجداد قبل 12 قرناً لحماية الثغور وصد هجمات الغزاة الطامعين». وأشاد بـ«المقاومة الإسلامية المظفرة»، قائلاً: «هذه المقاومة، شاء البعض أو أبى، فرضت على العالم أجمع حقيقة وجودها رأس حربة في وجه الظالمين العنصريين الأشرار، وفرضت الحقيقة اللبنانية بديلاً مشرّفاً عن الواقع العربي المنحل العفن، الواقع العربي مع الأسف العديم الإحساس والمعدوم الإرادة». وأكد أن «جبل كمال جنبلاط والأمير مجيد أرسلان سيظل ظهراً للمقاومة الإسلامية اللبنانية وسنداً لها، ولن يفكّ صلته الوثيقة بصاحب الوعد الصادق، سيد المقاومة، قدوة المجاهدين، حجة الإسلام والمسلمين سماحة السيد حسن نصر الله».
ورأى أن المقاومة «هي الضمانة الفعلية لحماية لبنان من أخطار إسرائيل ومن يقف خلفها»، وأنها «فرضت وجودها على التاريخ والسياسة والثقافة في لبنان، وعلى امتداد العالمين الإسلامي والعربي، ولا يمكن للبيان الوزاري لحكومة الاتحاد الوطني أن يبتعد قيد أنملة عن الاعتراف بشرعية المقاومة التي تستمد شرعيتها من ذاتها أولاً، ومن الحاجة التاريخية إليها كوسيلة فعالة للدفاع عن لبناننا»، مشيراً إلى أن حلم تحرير الأسرى وجثامين الشهداء هو «الدليل القاطع على قدرة المقاومة على تحقيق المعجزات».
وباسم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ألقى عبد الخالق كلمة قال فيها: «أي فرح يغمرنا؟ أي غار يكللنا؟ أي فخار يلبسنا؟ أي عز، ومجد وعنفوان؟ بل أي انتصار تحقق بعودتك إلى الحرية، إلى الوطن يا سمير؟ ولو كان لابنة غريفة الشهيدة ابتسام حرب ولابن شارون الشهيد وجدي الصايغ، ولو كان لابني عين وزين الشهيدين نضال وخلدون الحسنية، ولو كان لكل شهداء الجبل، وشهداء لبنان أن يشاركوا في احتفالنا اليوم لجاؤوا يقبّلونك كثيراً كثيراً، ولو كان لهم أن ينطقوا بكلمة في عرسك الوطني لنطقوا بشهامتك وبطولاتك ووطنيتك وعشقك لهذه الأرض ولقضيتها في الحرية والسيادة
والاستقلال».
ووصف تحرير الأسرى والجثامين بـ«الانتصار الثالث»، مؤكداً أن انتصارات المقاومة «ستتوالى، ولن تنتظر يا سمير طويلاً، حتى نحتفل باستعادة سيادتنا كاملة على أرضنا ومياهنا».

سوريا ساعدتنا ونحن أوفياء لها

وأخيراً ألقى القنطار كلمة قال فيها: «اليوم صباحاً سمعت أن العدو قرر اغتيالي، وهذا العدو يعرفني جيداً. أريد هنا أن أرد عليه بمقولة قالها يوماً إمام عظيم هو الإمام الحسين عليه السلام «أتهددني بالموت يا ابن الطلقاء والقتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة». أمس، وفي مثل هذه الساعة، كنت هناك بين أيديهم، بين أيدي الأعداء، لكن في هذه اللحظة أنا أكثر شوقاً للقائهم وأسأل الله أن يكون ذلك قريباً جداً. إن من يعتقد أن تحرير مزارع شبعا أو الأراضي اللبنانية يستطيع أن ينهي هذا الصراع فهو واهم صدقوني، لو تركناهم لن يتركونا. لذا فإن سلاح المقاومة هدفه شبعا وما بعد شبعا وما بعد بعد شبعا. ليكن هذا الأمر واضحاً ولا نخدع أنفسنا».
ودعا إلى الاتعاظ من تجربة فلسطين «لقد وقّعوا الاتفاقيات والعهود، وبعد فترة قصيرة اغتالوا كل من قام بعمليات ضد العدو الصهيوني في السابق. لقد وقعوا الاتفاقيات في فلسطين وظن بعض الإخوة أنهم أصبحوا آمنين، لكن في أول فرصة اغتالوا من وقّع معهم هذه الاتفاقية، ولنا بشهادة الرئيس ياسر عرفات الدليل القاطع على ما أقول. لذا يا أيها الإخوة يهمني اليوم وأنا بينكم أن أؤكد أنه بفضل دماء الشهداء، كل الشهداء، شهداء الثورة الفلسطينية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وكل الأبطال، ولا ننسى أبداً أصحاب الوعد الصادق، أصحاب الفضل الأكبر والأساس في هذا النصر وهذا الإنجاز، رجال المقاومة الإسلامية الباسلة الأحب على قلبي وسيدنا الكبير والعظيم سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله».
وقال إن «الشهيد الغالي كمال جنبلاط عندما أسس الحزب التقدمي الاشتراكي، وضع على جبين كل إنسان جملة واحدة: «من تمتد يده إلى سلاح المقاومة، الحزب التقدمي الاشتراكي يجب أن يقطعها»، مستذكراً الشهيدين رشيد وسعيد حمزة «وكل الأبطال في هذا الجبل»، رافضاً تسمية معركة الجبل «حرباً أهلية وقطع طرق. هذه كانت معركة الدفاع عن الكرامة والأرض والعزة، هؤلاء الشباب الذين استشهدوا كانوا يدافعون عن أرضهم، ويحاولون تغييبهم اليوم من خلال حرب أهلية وقطع طرق». وشدد «على أهمية أن نحافظ على التراث، تراث كمال جنبلاط، وأن لا ننسى أبداً من مدّ يده إلينا في اللحظات الصعبة. وأقول لولا سوريا لسقط هذا الجبل في حينه، ونحن أوفياء لسوريا التي ساعدتنا في اللحظات الصعبة حتى لو اختلف البعض معها».

الأخبار
(243)    هل أعجبتك المقالة (163)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي