أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الفصائل الفلسطينية تخسر في "اليرموك".. ناصر السهلي*

صورة حديثة لمخيم اليرموك - وكالات

لعل من يتابع الحراك الفلسطيني حول ما جرى ويجري في مخيم اليرموك، جنوب دمشق، سيكتشف بأنه حراك إعلامي وسياسي ومجتمعي يتصدره شباب فلسطينيون من سوريا ليس إلا.

لقد شكل ظهور "داعش" في اليرموك غطاء للسياسة الرسمية الفلسطينية الواقعة في دائرة الارتباك والتخلي لجهة الموقف العائم من مجمل الثورة السورية وما رافقها من أرقام قتل وتهجير لم توفر مئات آلاف قاطني المخيم مثل القرى والمدن السورية وحيث وجدت تجمعات فلسطينية.
الموقف ذاك يمكن لأي متابع رصده منذ عام 2012، لكن الأهم فيه التباس كل الموقف من الربيع العربي، فمن التصفيق لثورة مصر وسقوط مبارك إلى تكرار مقولة "مؤامرة غربية وخليجية"، بل والدفاع عما أطلقت عليه بعض الفصائل "نظام كامب دافيد" نكاية بثورات الشباب العربي.

ما نخر الموقف الفصائلي الفلسطيني تصريحات معيبة صدرت كتمهيد لاستهداف اليرموك، كحاضنة مدنية واغاثية، وصفت شبابه بالأفغان تارة والمتطرفين تارة أخرى. بل إن التهديد المبطن، والمنشور في صحيفة "الوطن السورية" لأمين سر فصيل فلسطيني بالقول: "إن اليرموك ليس أغلى من حمص..." فهم منه ما جرى لاحقا.

قد نتفهم الأمر بكليته لو أن شعارات "النأي بالنفس" أنتجت بالفعل نأيا بالنفس، لكننا في الواقع كنا أمام نأي بالنفس يشبه نأي حزب الله بنفسه في سوريا... من خلال تسابق أحمد جبريل وغيره نحو الانخراط المسلح في سوريا... بل تصريحات تيسير قبعة قبل أشهر عن "تشكيل كتائب إسلامية متنورة وقومية عربية لتقف مع سوريا وحزب الله" كان الأكثر إمعانا في مشهد لا علاقة له بالنأي بالنفس أو الحياد. الأمر لا يشبه الحالات الفردية، فالفصائلية الممنهجة تختلف تماما عن ذلك.

كنت أنصت جيدا في البداية لحسن نصر الله وهو يردد قصة "حماية المقامات المقدسة في سوريا". فماذا أنتج موقف الفصائل الفلسطينية السياسي والإعلامي على الأقل لحماية الإنسان الذي أراه أعلى قيمة من كل تلك المقامات الاسمنتية؟

موقف عبر عنه باختصار يوم 5 أبريل/نيسان محمود عباس في رام الله على هامش افتتاح مشروع حديقة بالقول: تعمل شخصيات من منظمات منظمة التحرير تقيم في دمشق...". ومن العجيب أن عباس وغيره يعرفون بأن شعبهم يعرف تماما إلى أين آلت ما تسمى "مبادرات فك الحصار عن اليرموك"... ويعرفون ما تفعله تلك الشخصيات في الخيم القريبة من معبر اليرموك الرئيس... 

بل إن التراشق الإعلامي على قناة "العربية" قبل يومين بين من هم مقيمون في اليرموك نفسه وأنور عبد الهادي في دمشق حول الممرات الآمنة يكشف وباختصار بؤس الحالة الفلسطينية. 

منذ فترة طويلة كان يقال لفلسطينيي الداخل، وتحديدا في ظل سلطة رام الله: إن ما يجري في اليرموك هو اختطاف داعش والنصرة والأفغان والشيشان للمخيم وسكانه...

باختصار، وحتى لا نشوش القارئ بتفاصيل كثيرة، كان الموقف منذ بدأ الحصار على مخيم اليرموك، وهو ليس مجهول المصدر أمام كل المهجرين من اليرموك، قد حمل التبرير الداعشي قبل ظهوره الأخير، فكيف كانت داعش وأخواتها مهيمنة في اليرموك سابقا بحسب كل تصريحات "القيادات" وفجأة أصبح المبرر للقصف والتدمير؟

وقبل الخوض في موقف الإفلاس الفصائلي في الحالة الفلسطينية لزاما علينا أن نقرأ باختصار شديد الموقف الكلي من الربيع العربي. 

اليسار الفلسطيني وقع في فخ آخر، مثلما وقعت تيارات إسلامية، وخصوصا تلك التي ترفع شعار "الوقوف مع المظلومين"، حين آمن بداية بشعارات "الحرية والعدالة الاجتماعية" ( في بلدان الربيع العربي، كما كانت الماكينة الدعائية لحزب الله بأعلام تلك الدول في خلفيات خطب نصر الله). لكن سرعان ما أصبح الموقف، الإعلامي والفكري والسياسي على الأقل، مصابا بصمت وفلتات بين فينة وأخرى. مثلما احتفى البعض بتصريح نايف حواتمة قبل مدة لقناة الميادين عن الأنظمة الاستبدادية.
قد يقول قائل: لكن تلك الفصائل ليس لها ساحة غير الساحة السورية...

قول كسر ظهر وفكر تلك الفصائل دفعة واحدة. فهل كانت تلك الفصائل حقا، قبل حصار اليرموك، تعمل على تحرير فلسطين من الجبهة السورية أو اللبنانية؟ نريد وقائع محددة... وليس من تلك التي تقول: لولا الصواريخ التي وصلت إلى غزة لكان وضع المقاومة في الحضيض... والمقاومة هنا تعبير مائع عن جهة مجهولة نكاية بحماس بعد أن جرى تحويل قيادتها فجأة إلى "خونة ومتآمرين".

ماذا يفيد مكتب ما في ضياع الحاضنة الشعبية؟ الفلسطينية منها والسورية؟

التهجير القسري لمئات آلاف الفلسطينيين عزاه البعض إلى قصة "المؤامرة على حق العودة". ولنتفق جدلا بأن الأمر كذلك، فمن هو الذي هجر ويهجر سكان المخيمات؟ وما هي الآليات التي عملت من خلالها فصائل فلسطينية لوقف هذا التهجير الممنهج، هل استطاعت مثلا إنهاء الحصار والسماح للبشر بالعودة إلى مخيماتها، ومن غير اليرموك أيضا في ريف دمشق؟

أن يجري اعتقال مخرج لقناة فضائية فلسطينية وينتهي به الحال تحت التعذيب، مثل عديد الشباب الذين لم يكن لهم من نشاط سوى ما كانوا تعودوا عليه في رحم تلك الفصائل يكشف عن حجم هذا الإفلاس المترافق، مع صمت فصائلي لموت المئات تجويعا وتعذيبا، وما يزال بعضهم معتقلا ليومنا هذا ومنهم نشطاء في تلك الفصائل الفلسطينية. عدا عن قتل شخصيات من الصف الأول والثاني لمجموع تلك الفصائل ممن ثبت عليه تهمة "العمل الإغاثي".

لكن دعونا نرى إلى أين وصلت مكانة تلك الفصائل مؤخرا. جدران النشطاء الفلسطينيون على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جانب جدران اليرموك، أو ما تبقى منها، تكشف لنا إلى أي مستوى انحدرت قيمتها ومكانتها مجتمعة في عين شعبها. 

ليس بعتب يكتب هؤلاء عن عدد البراميل التي ألقيت مساء الجمعة على اليرموك، بأنها بعدد الفصائل الفلسطينية، ورغم تكذيب أنور عبد الهادي فالوقائع تحمل شيئا آخر. إن رد كل المآسي إلى "الفبركات الإعلامية" لم تؤدِّ بسوريا إجمالا إلا إلى هذه الحالة من الفرز وشرذمة مجتمعها تحت طائل حالة "الإنكار" كأحد أهم مكامن الهروب من مواجهة الواقع المؤلم بالاعتراف بالثورة السورية بعيدا عن قصص "مافي شي بحمص"، والتي تم تبنيها "مافي شي باليرموك".

هذه الأيام تعاد كتابة تاريخ علاقة الشعب بثورته وفصائله، فمستوى الانحدار في الموقف كشفته نقاشات ما سمي وقفات تضامنية مع اليرموك في كل من رام الله وغزة.

في دوار المنارة، وفي مقابل مقر منظمة التحرير الفلسطينية، خرج تجمعان بالكاد شارك فيهما عشرات. فعلى ماذا يؤشر ذلك؟

ليس الأمر متعلقا بالشعب كما يريد البعض تفسيره، بل ببساطة شديدة أيضا لقيمة ومستوى تلك الفصائل والتنظيمات، بل حتى مؤسسات المجتمع المدني. فإذا كانت غير قادرة على التعبير عن موقف في سوريا، مخافة نهاية تشبه نهاية موعد موعد (قضى تعذيبا وهو من حركة فتح، التي لم تفتح فمها احتجاجا)، يبقى أنها تعيش بين شعبها في الداخل. لكنها في الحقيقة قيمة تعبر عن نفسها في واقع فلسطيني مأزوم.

تذكير هؤلاء بدور الشتات، وتحديدا في المخيمات، في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية سيبدو حالة من التسول الذي يعبر عن فاجعة الواقع الفلسطيني المركز على "كرتونة إغاثة".

القيمة الحقيقية للفلسطيني في سياق مفهوم "الممانعة" كشف من جديد الانهيار الذي أصاب القيم الفلسطينية، سواء كانت يسارية أم "برجوازية وطنية" و"إسلامية وطنية" في تعريفات أيام زمان.

و"ماذا نفعل؟"... هو السؤال السحري، المهرب للفصائل وهي تجيب على أسئلة الحصار وشعبها... لكنها لا تتخيل كثيرا حجم الكارثة أبدا... جيل كامل يكفر بالفصائل هذه الأيام، وبدون أن تنتبه إلى دورها في 4 سنوات من الفرجة على مقتلة تشريد شعبها والانشغال ببوصلة أخرى غير ما تدعيه.

إن السؤال العاجز ينم عن العجز، ولهذا لم يعد بالإمكان أن يباع الوهم لجيل شاب وجد نفسه مهجرا في سوريا كبقية السوريين وفي خارجها غرقا في مياه المتوسط، حتى بعد أن أصبحت بيروت تلفظ هؤلاء جميعا.

إن كم الأضاليل وتشويه الحقائق يوصل إلى ما هو أبعد مما نحن عليه، سوريين وفلسطينيين.

بل كما قال أحدهم في إجابة على سؤال "ما العمل؟" الذي يطرحه المتخندقون وراء شعارات الفصائل الفلسطينية: أن يجمع الفلسطينيون كل أدبيات الفصائل ومفكري وكتاب وشعراء وفناني الشعب الفلسطيني لتحرق جميعها بدل التغني بها ونحن نأتي على نقائضها...

إذا لم تكن تلك الإجابة مؤشرا على حجم الخسارة الفصائلية، فلست أدري أي دليل يريد هؤلاء لفهم معاني انهيار القيم وافتقاد كل مصداقية عند أصحاب القضية أنفسهم...اللاجئون تحديدا في تكرار لمشهد مأساة مخيمات الأردن ولبنان... وإفراغ الكويت والعراق منهم.

*كاتب فلسطيني - مشاركة لـ"زمان الوصل"
(158)    هل أعجبتك المقالة (156)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي