عندما خرج من سوريا في عام 2012 ووصل إلى باريس، سألت أحد المعارضين السوريين المقيم في باريس منذ ثلاثة عقود، والمعروف بمواقفه الثابتة المعادية لنظام الأسدين، سألته: هل التقيت (فلان)؟ وهو رفيق قديم وأحد الوجوه السياسة البارزة في معارضتها التاريخية للنظام؟
قال: لقد التقيته في إحدي المحطات التلفزيونية بعد أن أدلى بتصريح، ورحبت به وأعطيته رقم هاتفي، وقلت له إن بيتي مفتوح لك في كل وقت.
قلت: ولكن أرى أن لغتك معه جافة قليلا، ألا يجب دعم الرجل كي يحافظ على استقلالية خطابه وقوته؟!.
قال صديقي "الباريسي السوري": أنت أدرى مني أو مثلي بشروط الحياة في الغرب، أو لنقل خارج البيئة الطبيعية للمناضل، هو مثل كل الآخرين بحاجة لبيت يسكنه، ولثمن طعام يأكله، ولثياب يرتديها، ولمصاريف نثرية كثيرة، فهو ليس مثلي ومثلك يعرف مداخل البلد ومخارجها كي يستطيع تقليص النفقات، إذن هو يحتاج لمال أكثر من حاجة المقيم القديم؛ كل ذلك سيجعله أسير الممول؛ أكان شخصا أو حزبا أو دولة، لا يستطيع الرفض عندما يُطلب منه أن يقول ما يريده "المعلم". وبما أن صديقنا وكل من خرح من سوريا ليسوا أثرياء كي يعتمدوا على ثرواتهم، فليس أمامهم إلا الانصياع لأوامر الممولين، وسترى ذلك قريبا.
كان حكم صديقي الباريسي دقيقا، فما كاد المجلس الوطني يكبر قليلا في العمر حتى بدأت روائح الفساد والمحسوبيات تفوح منه، ولما كانت طريقة بنائه غير صحيحة، فقد كان إفساده سهلا، وجرت عدة محاولات لإعادة توجيه البوصلة إلا أن النتيجة كانت دائما مزيدا من الفساد والابتعاد عن أهداف الثورة السورية، ولم يكن الوريث "الائتلاف الوطني" بأحسن من المجلس.
فتغيير الأشخاص لم يكن كافيا لتصحيح المسار، والسبب معروف، ألا وهو تحكم صاحب المال السياسي بتوجه المجلس ومن بعده الائتلاف.
عودة إلى ما بدأت به كلامي، لتوضيح نقطة هامة: ليس المقصود أبدا اتهام شخص معين أو الدفاع عن سلوك آخر، فقدرات الشخص، أي شخص، تسمح له بالحركة في دائرة محدودة، تجاوزها يعني الموت سياسيا أو الطرد خارج الحلبة، وبالتالي الجوع الحقيقي للمناضل الذي خرج من سوريا ورأسماله الوحيد هو نضاله وسمعته، هذا الرأسمال لا يسمن ولا يغني من جوع، ويبدأ ترويضه على طريقة "النمور في اليوم العاشر" القصة التي نعرفها جميعا. هذا بالنسبة للشخص الواحد، أما بالنسبة لمئات المعارضين فالأمر يغدو أصعب وأكثر تعقيدا..
لتوضيح ما ذهبت إليه، سأذكر حادثة أعرف بعض تفاصيلها وقد جرت وقائعها في مونتريال، فقد ادعى أحد الأثرياء أنه تعرض للاعتداء من قبل شبيحة النظام، وقامت الشرطة بالتحقيق في الموضوع، ثم تم الصمت عن النتائج، أو ربما لم تكن النتائج في مصلحة هذا الثري فلم يعممها.
بعد عدة أسابيع قرأت خبرا يقول إن الرجل كان قد التزم بدفع عدة ملايين من الدولارات مع آخرين لإنجاز بعض المشاريع التي تدعم الثورة، وعندما لم يلتزم بوعده تم فصله من التجمع.
وبدأت أهتم بما يقوله هذا الرجل، خاصة أنني عرفته قبل سنوات عن قرب، وأعرف مدى تفاهته وكذبه وادعائه. كانت إحدى تصريحاته المحلية أنه سيدعم نفقات قدوم الأب باولو إلى مونتريال بخمسة آلاف دولار. بعد أن فاحت رائحته سألت الشخص الذي وعده إذا كان قد استلم المبلغ من الثري المزعوم فقال: لم أستلم منه أي شيء، بل إنه يتهرب من الرد على الهاتف. وعندما رأيت اسمه في قائمة أعضاء المجلس الوطني، وبعد ذلك في قائمة الائتلاف سألت عن الأمر فتوضح لي أن أحد أعضاء المكتب التنفيذي في المجلس الوطني قد رشحه، وقد فعل ذلك عند الانتقال إلى الائتلاف، ولا نعرف ما هو الثمن. هذه عينة من الحالات التي تم فيها اختيارالقيادة السياسية للمعارضة السورية، والتي أوصلت الثورة إلى ما وصلت إليه، وأوصلت الائتلاف إلى الإفلاس أو قريبا منه.
عندما كنت في اسطمبول قبل عدة أشهر سألني أحد المتنفذين في المعارضة: ما هو البديل الذي يمكنك طرحه لتجاوز المشكلة؟ قلت أن يتخذ رجال المعارضة موقفا شجاعا، مثل مواقف الفرسان في العصور الوسطى، ويعلنوا عن حل الائتلاف وكذلك الحكومة المؤقتة، مع تقديم التوضيحات الحقيقية للشعب السوري، عندها سيعمل هذا الشعب الثائر على اختيار قيادة حقيقية لثورته. أنا أعرف أن هذا لن يحصل، لأن من رضي أن يكون عضواً في هذه المعارضة بالطريقة التي تم فيها اختياره، لن يقبل بالخروج منها بالطريقة التي اقترحتها، إنه سيقبل بطريقة الطرد كما قبل بطريقة التعيين من فوق، ولذلك لم يعد أحد يحترم هذه المعارضة لا على مستوى الداخل السوري، ولا على مستوى الخارج أو ما يسمى أصدقاء الشعب السوري.
وفي حديث متصل، قال لي أحد المعارف إن مجموعته المعارضة الصغيرة قد أنفقت حوالى 200 ألف دولار على مطبوعة خلال عامين، وجاء الوقت الذي يجب التخلي عنها لعدم توفر المال. قلت له: لو أنكم استثمرتم هذا المبلغ في منشأة صناعية أو تجارية لمدة عام كان من الممكن أن تكتفوا ماليا من أرباح المشروع، وقد تستطيعون تمويل تلك المطبوعة لسنوات. قال: هذا الأمر يحتاج إلى وقت، ونحن في عجلة من أمرنا. قلت له شكرا على صراحتك الجارحة. أعتقد أن هذه الحالات التي ذكرتها كافية لتقديم صورة سوداوية عن معارضتنا، ولكنها للأسف حقيقية ولا حاجة للدخول في التفاصيل.
مأساة الثورة هي المال السياسي والولاءات الخارجية، ولكي نخرج من هذه المأساة ونتجاوزها يجب أن يتم التحرر من هيمنة المال السياسي، والاعتماد على التمويل الذاتي، وعندنا الكثيرمن الثروات التي يمكن لأبناء البلد استثمارها إذا كنا نريد الانتصار، فهل نريد لثورتنا الانتصار حقا!؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية