كانت سياسة الأسدين إذلال السوريين بشكل ممنهج ودون أي حذر في ذلك او تورية. وكان هدف ذلك دفعهم للتخلي عن حقوقهم الطبيعية كمواطنين واعتبارها عطايا ومنحا وهبات من قبل القائد لرعاياه، الذين أحيانا لا يستحقونها، وكان عليهم البرهنة دائما على ولائهم للقائد العظيم، حتى وصل بهم الأمر إلى إرسال البرقيات الموقعة بدمائهم له حتى عندما يسقط المطر، أو عندما ينبت العشب في البراري.
لذلك كان طبيعا جدا أن لا يحتج الناس على اعتبار سوريا ملكية خاصة وأصبح تداول "سوريا الأسد" أمرا عاديا جدا، بل إنه انتشر خارج الحدود السورية، وأصبح شعارا يتغنى به "الممانعون" أينما كانوا.
كانت فكرة ترويض السوريين التي عبّر عنها بعبقريته الخاصة الكاتب زكريا تامر، في قصته القصيرة "النمور في اليوم العاشر"، الشغل الشاغل للأسد الأب، ابتدأت بطوابير الخبز ولم تنتهِ بتقنين المياه والكهرباء، وجعل حياة الناس كلها تمرّ عبر الأجهزة الأمنية، إلى أن وصل الأمر بالسوري الذي تربطه علاقة بعنصر مخابرات إلى التباهي بذلك أمام الآخرين.
ويبدو أن سلوك النظام هذا قد ترك أثره على حافظ الأسد وابنه بعده؛ فاختلط عندهما الوهم بالحقيقة، لذلك سمعنا "حافظ" يقول في خطاب تلفزيوني، في بداية الثمانينات: إنه على استعداد لمغادرة موقع الرئاسة والعودة إلى بيته، إذا قال مواطن سوري واحد، في الاستفتاء، لا لحافظ الأسد. وها هو ابنه بشار يقول البارحة لإحدى محطات التلفزة الأمريكية، بعد أربع سنوات من قتله للسوريين، ما قاله أبوه قبل أكثر من ثلاثين عاما، إنه على استعداد لترك السلطة "عندما لا أحظى بتأييد الشعب. عندما لا أمثل المصالح والقيم السورية".
ولكن التطور المهم في خطاب الابن عن أبيه، أن الأب كان قد اعتمد مقياس الاستفتاء لمعرفة حاجة السوريين الماسّة له، ولكن ابنه، وبما أننا في زمن الحرب على "الإرهاب"، وليس من إمكانية فعلية لممارسة الترف الذي مارسه الأب، فإنه قال للصحفي الأمريكي الدي سأله عن كيفية تحديد حجم التأييد الذي يتمتع به بين السوريين، قال دون تردد: "لا أحدد. أحس. أشعر. إنني على اتصال بهم".
وبمناسبة قول بشار الأسد إنه يعرف حاجات الناس وطريقة تفكيرهم لأنه على تواصل معهم، تذكرت قصة معبرة حصلت في حمص في الثمانينات، تدل على حجم "التواصل" بين القائد وشعبه. بعد أن تم نقل غازي كنعان من فرع المخابرات العسكرية في حمص إلى فرع لبنان حيث بنى امبراطوريته المعروفة، تم تكليف المقدم عارف قرنوب، بإدارة الفرع، فقد كان الرجل الوجه القبيح لغازي كنعان في تعامله مع الحماصنة أثناء أزمة النظام والإخوان على اعتبار أنه "سني" ومن دير الزور، وكان يُقال عنه إنه كان يقابل النساء اللواتي يأتين إلى الفرع للسؤال عن أبنائهن أو إخوتهن أو أزواجهن، ليس لتبية طلباتهن، وإنما لاختيار الأجمل بينهن للمعلم غازي، ومساومتها بعد ذلك على روح ابنها أو أخيها أو زوجها. المهم في القصة أن الرجل أصبح في موقعه الجديد حاكم حمص المطلق، كما كان غازي كنعان، بل إنه تفوق عليه عندما طلب من عملائه الترويج له في أوساط الناس أن عارف غير شكل، فهو "مننا وفينا" وسيعمل لمصلحة أبناء "السنة" ولن يكون كغازي كنعان "العلوي"، وهو نفس ما قاله المفتي أحمد حسون عندما زار مونتريال في التسعينات عندما كان عضواً في مجلس العشب، فقد حضرتُ سهرة من سهراته مع أثرياء سوريين كان يطمئنهم فيها "إننا سنصل إلى ما نريد بإذن الله"، والذكي من الإشارة يفهم. بعد فترة قصيرة بدأت النميمة تنتشر بين الحماصنة عن أن المقدم عارف على علاقة عاطفية مع سيدة حمصية متزوجة وهي من عائلة معروفة، التي كانت علاقاتها المصلحية مع أجهزة المخابرات معروفة أيضا، لتسهيل صفقاتها التجارية. المهم أن سيادة المقدم، الذي كان صاحب البيت يفتخر بمعرفته به أمام الحماصنة، وقد نال نتيجة ذلك احتقار الغالبية منهم، كان دائما على مائدة العائلة، وبما أن "الطريق إلى قلب الرجل يمر من معدته"، فقد استطاعت السيدة الوصول إلى "قلب" المقدم عارف. وفي أحد الأيام عاد الزوج إلى بيته على غير العادة، ودخل إلى غرفة نومه ليتفاجأ بسيادة المقدم يحتل مكانه، وعندما حاول أن يرفع يده بمسدسه كانت رصاصات مسدس المقدم قد وصلت إلى قلب الزوج المخدوع دون الحاجة للمرور من معدته!.
وعلى طريقة السوريين في مقاومتهم السلبية "للاحتلال" الأسدي لسوريا، كان الحماصنة ماهرين في اختيار أسلوب الاحتجاج، فرغم احتقارهم للزوج القتيل، لعلاقاته المعروفة سابقا مع الأمن، فقد شارك عشرات الآلاف منهم في جنازته، وشهدت حمص جنازة استثنائية للقتيل في ذلك الوقت. ماذا كان رد حافظ الأسد على سلوك أحد قادته الأمنيين غير الأخلاقي هذا، وعلى "مظاهرة" الحماصنة في الجنازة!!؟ لقد تم نقل المقدم عارف من حمص. ولكي لا يفهم الحماصنة الرسالة بطريقة خاطئة، وأن النظام قد عاقب رئيس الفرع من أجل عيونهم ومشاعرهم، تمت مكافأة المجرم ونقله إلى موقع أعلى من موقعه السابق، وقد قيل إنه تم ترفيعه عسكريا. وبما أن الزوج كان "مجرما"، وقد نال العقاب الذي يستحقه، فإن سيادة الرئيس بقي عند وعده بأنه سيستقيل إذا قال سوري واحد إنه ضد زعامتة التاريخية. وهو تماما ما قاله الوريث بشار للتلفزيون الأمريكي من أنه سيترك السلطة "عندما لا أحظى بتأييد الشعب. عندما لا أمثل المصالح والقيم السورية". يبدو أن المصالح والقيم السورية هي، حسب منظور الأسدين، في إبادة ما تبقى من سوريين، لذلك قام عناصر فرع المخابرات في إدلب، قبل فرارهم من المدينة المحررة،بقتل المعتقلين السياسيين في الفرع، في جريمة قل مثيلها بين الوحوش، فكيف بين البشر! أما لماذا فعل رجاله ذلك، ذلك فقد كان جوابه: "لأنه يعرف حجم التأييد "الشعبي" له".
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية