أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الكتاب في عصر الاستبداد .. ميخائيل سعد

مقعد على شكل كتاب في أحد شوارع اسطمبول -زمان الوصل

لن أكتب اليوم عن الحرب والموت، عن الشهادة والولادة، عن الهجرة والتشبث بالمكان. لقد بدأ الحديث عن تلك الموضوعات يجفف ما تبقى من اخضرار روحي، ليحل بدلا عنها التصحر في القلب والعروق. 

بحثت طويلا عن موضوع أحدثكم به بعيدا عن لغة الرصاص التي باتت هي اللغة اليومية للسوريين منذ أربع سنوات، أو وصف البيوت المهدمة بفعل الغارات، أو الحديث عن غرق السوريين في مراكب الهجرة غير "الشرعية"، أو عن التحريض الطائفي، الذي يحبه هذه الأيام القراء والكتاب، حتى لو كان ضد مصلحتهم في النهاية، صحيح أن في كل تفصيل صغير من تفاصيل تلك القصص يمكننا كتابة عشرات الكتب دون أن نفيها حقها، إلا أنني تعبت من ملاحقة قصص الحياة اليومية للسوريين، وبحثت عن شيء آخر فلم أجد إلا قصة الكتاب الذي شاء الحظ السيئ أن يقع بين يدي، أقصد بالكتاب أو الكتب بصيغة الجمع. أحد أيام ١٩٨٧ دخلت إلى شعبة الأمن السياسي في حلب، فقد كان رئيس فرع التحقيق فيها أحد معارفي منذ السبعينات، في حمص بداية ثم في الجامعة. 

كنت كلما زرت المدينة أزور الرجل، غير خائف من العلاقة العلنية التي تربطني بضابط أمن. كنت واثقا من نفسي، وكان يعرف تاريخي السياسي المعارض للنظام ويحترم ذلك، علنا على الأقل. في ذلك اليوم، عندما زرته، أخرج من درج مكتبه دفترا وبدأ بقراءة بعض القصائد السياسية التي تهجو نظام الأسد بشكل صريح. 

أغلق الدفتر وسألني رأيي بما سمعت، فقلت له ضاحكا: قصائد جميلة وشجاعة، رغم أنني لا أحب الشعر المباشر لا في الحب ولا في السياسة، ما قصة هذه القصائد؟ قال: لقد اعتقلنا البارحة شاعرا حلبيا، ووجدنا في غرفته هذا الدفتر، وهو ديوان كامل، كل قصائده على هي على نمط ما سمعت. 

كنت أفكر بطريقة أدفع الرجل من خلالها إلى الاحتفاظ بالدفتر، فهو وثيقة سياسية وأدبية مهمة عن شجاعة السوريين في مواجهة الاستبداد في زمن النار والحديد، قلت للرجل: أتمنى أن لا تتلف الدفتر، فقد يلزم مستقبلا لمؤرخي الأدب في حلب وسوريا، رغم أنه قد يكون جارحا لمشاعركم "الوطنية"!. 

ضحك الرجل من سذاجتي وقال: هل تعتقد أنني أستطيع ذلك؟ لو فعلت يا صاحبي لقطعوا لي أصابعي. طبعا سأحتفظ به كوثيقة فهو مرفق مع إفادته، ولكن ليس من أجل تاريخ الأدب، وإنما لإدانة هذا الخنزير الذي تجرأ وشتم حزبنا العظيم وقيادته الفذة. 

تذكري لهذه الحادثة جعلني أتذكر قصص مكتباتي الشخصية، فهي جزء من قصة الثقافة والسياسة في سوريا الأسد. بدأت رحلتي مع الكتاب عندما كنت في الصف الخامس الابتدائي، فقد ورثت مكتبة أخي الكبير، التي تركها في القرية، وكان من ضمنها كتاب "تحت ظلال الزيزفون" او "ماجدولين" من تعريب المنفلوطي. كنت في بداية تلمسي لدروب الحب، وكان في الرواية كل الرومانسية الأوروبية ممزوجة مع رومانسية الشرق عن الحب والعلاقة بين الجنسين، كانت الرواية مدخلي إلى عالم الكتاب والقراءة وعالم الحب الخرافي، الذي لا يزال المكون الحقيقي لحياتي العاطفية وأنا في هذا العمر. ولما كنا دائمي التنقل بين المدن السورية بحكم عمل والدي كشرطي، فقد كان من الصعب تأسيس مكتبة شخصية قبل الاستقرار النهائي في حمص عام ١٩٦٤.

ما بين عامي ٦٤ و٧٠ وهو عام تخرجي في دار المعلمين، كانت مكتبتي الأدبية أكبر من حجمي المعرفي بكثير، فقد استثمرت فيها كل ما استطعت توفيره من نقود من راتبي في دار المعلمين ومن أعمالي الصيفية. كنت أشتري كل ما يقع تحت يدي من كتب. وأصبح أهلي يشكون من الكتب التي أخذت حجما مهماً من خزائن بيتنا الصغير المكون من غرفتين. كان أبي المدافع الوحيد عن كتبي، وكان خالتي الأمية هي الحارس الأمين لهم أثناء فترات غيابي. عندما اعتقلت عام ٧٦ كانت مكتبتي عامرة بمئات الكتب، وعندما خرجت من السجن بعد ١٣ شهرا، كان نصف المكتبة قد تبخر، ولم يستطع أحد أن يفسر لي سبب ذلك الاختفاء، مرة قالت أختي إن أحد الأقرباء نصحنا برمي الكتب السياسية، لأنها قد تكون سببا في إدانتي، وقام هو بمساعدتنا في اختيار الكتب، ومرة قالت خالتي: إن بعض أصدقائك كانوا يزوروننا ويستعيرون بعض الكتب على أمل إعادتها، ومرة أخرى همس لي أخي الصغير إنه كان يبيع بعض الكتب عندما لا يجد ثمن باكيت دخان. عندما استقريت في بيروت مطلع ١٩٨٠ كان أول ما فكرت به تأسيس مكتبة بيتية. فقد كان وجود الكتاب قربي يعطيني نوعا من الأمان الذي افتقدته دائما، وساعدني عملي في الصحافة، ودور النشر لاحقا، على الحصول على الكثير من الكتب مجانا. 

وعندما حاصرت إسرائيل بيروت صيف ٨٢ كانت مكتبتي في الفاكهاني تحتل غرفة كاملة من بيتي، الذي غادرته حاملا معي محفظة ظهر صغيرة فيها بعض الثياب الخفيفة. وقد سمعت بعد خروج الإسرائيليين من بيروت، قصصا عن الفاكهاني حيث كان بيتي، منها مثلا العثور على قطع السلاح في مكبات الزبالة والكثير الكثير من الكتب الثورية، وكل ما له علاقة بثورات الشعوب، خوفا من أن يعثر عليها الإسرائيلي فتكون دليلا ضد أصحاب البيوت، ولم أعرف أبدا مصير مكتبتي البيروتية. عدت إلى سوريا مرغما، لا أملك إلا الثياب التي أرتديها، فقد كنت أعتقد أن وجود الأسد وسجونه فيها أسهل من البقاء تحت هيمنة الإسرائيليين، وكنت مخطئا في ذلك، فهناك كان العدو واضحا على الأقل. 

ولكن اكتشفت ذلك بعد فوات الأوان. ساعدتني الخبرة الجديدة التي اكتسبتها في بيروت عن عالم الكتاب في تأسيس مكتبة عامة في حمص، وكان ذلك فرصتي الذهبية في إعادة تأسيس مكتبتي الشخصية التي حلمت بها طويلا، وهذا ما فعلته، فقد كنت في كل زيارة إلى بيروت لشراء الكتب، كنت أقتني لمكتبتي البيتية ما لم يكن متوفرا في سوريا. وقد خصصت في بيتي الحديد غرفة للكتب، وتحقق حلمي بامتلاك مكتبة كانت تغطي كتبها حيطان الغرفة، من الأرض وحتى السقف. صحيح أنني لم أقرأ الكثير من تلك الكتب، ولكن مجرد وجودها كان يعطيني الأمل أنني سأستطيع ذلك في أحد الأيام، أو التباهي بما أملك. ولكن الأمل عند السوريين كان عبارة عن "خرافة" مع وجود بيت الأسد في السلطة. رغم حرصي الشديد على عدم الانخراط في عالم الأحزاب المعارضة في سوريا في ذلك الوقت، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لإبعادي عن عالم السجن من جديد، وكان السبب هذه المرة هو عالم التجارة والمنافسة، التي كان عمادها هو التعامل مع المخابرات وليس المنافسة الشريفة. 

كانت تجارة الكتاب مثل غيرها من أنواع التجارة في عصر الأسد، تخضع لنفس الشروط التي تخضع لها كل أنواع النشاطات السورية التجارية والاجتماعية والثقافية، أي يجب المرور عبر الأقنية المخابراتية، وليس هناك من وسيلة أخرى، وكانت المنافسة في عالم الكتاب السوري تتطلب إبعادي عن هذا السوق، ولكن تحت غطاء سياسي، كأن تتهمني المخابرات، كوني مسيحي الاسم، بأنني عميل عند القوات اللبنانية مثلا. بعد سبعة أشهر خرجت من السجن، وبعد شهرين كنت في كندا كلاجئ سياسي. وعاد حلم الكتاب يرافقني فقررت تأسيس مكتبة عربية في مونتريال، ولكن الحلم مات عندما سبقني أحدهم في افتتاح مكتبة، إلا أن آلاف الكتب كانت قد وصلتني من مكتبتي السورية، فزينت بها جدران منزلي المونتريالي، وقد بعت أغلبها لسد النقص في مأكلي ومشربي. أما مكتبتي البيتية في سوريا فقد قدمتها هدية إلى الأب جوزيف الكردي في دير الآباء اليسوعيين في حمص، تسديدا لنوع من الدين لهذا الشخص النبيل ومساعدته لي ولأسرتني أثناء وجودي في السجن. لم تستطع دولة الأسد التي حاربت الكتاب والثقافة الحقيقية واضطهدت الكتاب، كما حدث مع الشاعر الحلبي الذي اعتقله الأمن السياسي، أن تمنع قيام الثورة، فقد كانت الحاجة للحرية أكبر من كل أساليب القهر والتجهيل، وكانت الحاجة للكرامة أقوى من قضبان السجون، ولم تكن قصة الكتاب في سوريا إلا قصة الاستبداد في أحد وجوهه.

(160)    هل أعجبتك المقالة (149)

abbass

2015-03-25

بعد التحية : أعتقد أن الديكتاتورية بأسوأ حالاتها أقرب إلى المكتبات و العلوم بصفة عامة ، أما البديل الآخر سيجعل من روايات الحب و العشق أقصى مبتغاك المعرفي و سقفا لأحلامك بالطبع أتحدث عن البلدان العربية في تسلسل الأحداث لا بد للعلمانية أن تسبق حركات التحرر الناجحة . لا تلقِ اللوم على طرف وتغض الطرف عن البقية . الطريق إلى الدولة الديمقراطية المتحضرة يقتضي حكماً نظافته من القمامة المادية و الفكرية ..


شرحبيل

2015-03-26

وشبه الشيء منجذب ٌ إليه ......وأشبهنا بدنيانا الطغام ٌ.........المتنبي -------------------- أيام زمان ، ذهبت فرحاً إلى اتحاد الكتاب العرب وتحت إبطي رواية جميلة تعبت في كتابتها وصياغتها أكثر من عقدين ..قابلت علي عقلة العرسان رئيس الاتحاد الذي لايزول ولاتدركه العقول ، والذي استمر في منصبه أكثر من المقبورر الخارىء حافظ اسد ..... شاهد الرواية ..ووعدني بالرد بعد اسبوعين ريثما يتداولها بضعة كتاب محترفين من الاتحاد الحائز أغلبهم على جائزة أبي سعيد الحمصاني في باب السريجة .....عدت بعد اسبوعين فقال : الرواية جيدة جداً ونحن جاهزون لطبعها وتوزيعها ...سررت جداً لكنه صدمني قائلاً : - مهلاً ياصديقي ..هناك بعض الاستكمالات التي ينبغي مراعاتها ...!! - ماهي ..؟ - لابأس من بضعة كلمات .. مقالة أو مقالتين في تمجيد القائد المناضل ...و... قاطعته قائلاً : - هذه رواية اجتماعية تتكلم عن الحب والخيانة والاخلاص والغدر ..فمالي وماللقائد الخالد ...؟؟ - أنا أتكفل بنشرها في جريدة البعث .... _ أعطني ياسيد علي أوراقي ..والله يغنينا عنكم ......ثم ذهبت في سبيلي ......


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي