أكثر رعباً من التفاصيل الجزئية اليومية لما يجري في سوريا، هي تلك النتائج الكليَة لما أوصلنا إليه نظام الاستبداد من خسارة فادحة على مستوى حياة السوريين ومستقبلهم.
تقول آخر الدراسات إن عدد الضحايا مع نهاية كانون الأول ـديسمبر 2014 بلغ 210 آلاف، فيما وصل عدد المصابين إلى 840 ألف شخص، ما يعني أننا أمام مليون وخمسين ألف حالة مسجلة إذا ما استثنينا الحالات المجهولة والتي تفوق هذا العدد بكثير باعتراف منظمات دولية وأهلية.
الأرقام تشير حسب دراسة صدرت مؤخراً عن المركز السوري لبحوث السياسيات إلى أن 6 بالمئة من السوريين تعرضوا للقتل أو الإصابة أو التشويه. الكارثة المروعة أسفرت عن انخفاض متوسط عمر الإنسان السوري 20 سنة، حيث سجل متوسط عمر الفرد عام 2010 معدل 75.9 لينخفض إلى 55.7 عام 2014. ما يبعث على مزيد من الأسى هو أن جميع الدراسات التي أجريت ـ على قلتهاـ تتعامل مع المعلومة الجافة بناء على مسوحات أو إحصاءات، لكنها لا تستطيع تشخيص الحالة النفسية للسوريين الذين أضحى 28 % منهم خارج البلاد فيما غادر أكثر من نصف السكان أماكن سكناهم هرباً من الموت. ليس المهم خسارة 202 مليار دولار، فقد تخسر دولة خليجية ضعف هذا الرقم في هزة واحدة لبورصتها، والأهم هو السنوات التي ضاعت من أعمار السوريين والتي لو قسمت على عدد السكان بمعدل 20 عاماً لكل إنسان من بين 23 مليوناً لبلغت 460 مليون عام. وللعلم فإن أربعة سوريين من كل خمسة هم اليوم تحت خط الفقر، حيث فقد أكثر من 12 مليون شخص مصادر رزقهم، فيما بقي نصف الأطفال في مرحلة التعليم الأساسي بلا تعليم مع فقدانهم 3 سنوات دراسية، وهو ما يعني حسب الدراسات خسارة 7.4 مليون سنة دراسية تضاف إلى خسائر رأس المال البشري.
لن أطيل في سرد الأرقام ولكم أن تتخيلوا دولة باتت في ذيل قائمة دول العالم في الصحة والتعليم والاستثمار والسياحة والأمن، ولكم أيضاً أن تستغربوا كيف يمكن لنظام أن يستمر في حكم البلاد تحت شعار المؤامرة وكأنها جاءت بهدف قتل الشعب وفنائه وانهيار الدولة بيد مؤسستها العسكرية والأمنية.
كنت أتساءل ماذا لو أن بشار الأسد أفشل المؤامرة الكونية بإعلانه التنحي وتشكيل مجلس حكم انتقالي، أو تكليف نائبه لحين إجراء انتخابات رئاسية مع الحفاظ على مؤسسات الدولة، وفجأة قفز في ذهني سؤال أهم: وهل كان يستطيع أن يتنحى وهناك نحو عشرة آلاف ضابط بين القصر الجمهوري وأجهزة المخابرات يمتلك الضعيف بينهم مشروعاً استثمارياً و"فيلا" وأسطول سيارات وحسابات مصرفية بأسماء أفراد عائلته. هل كان بالإمكان اقتلاع هذا السرطان الخبيث حتى بانقلاب أبيض، مدعوم من الولايات المتحدة أو روسيا أو إيران أو جميع هذه القوى التي تعمل اليوم معاً؟!. ليس ثمة ما يشير إلى أن سورية كانت متجهة إلى غير الذي تشهده اليوم، إذ لم يكن من الممكن أن يستمر رامي مخلوف واجهة بشار الأسد المالية في حلمه البسيط الذي كان يتداوله السوريون همساً في نكتة تقول إنه لم يطمح إلا لامتلاك شقتين واحدة في دمشق والثانية في حلب ومن ثم فتح الشقتين على بعضهما البعض، لكن هذا كان قد حصل بالفعل، فأصبحت البلاد والعباد ملكاً للعائلة الحاكمة.
بعد كل ما سبق يبدو أن "طبخة" التسوية السياسية باتت على النار، وإذا لم يخب الظن فإن طبيعة التسوية إذا ما أبقت على بشار وفاوضته لحين نقل السلطة، فإن النظام القادم سيكون من صلب ما هو قائم مع إشراك شخصيات من المعارضة السياسية بمؤسساتها المختلفة، ولعل هذا الخيار قابل للتطبيق نظرياً وعملياً، لكنه يعني أن سوريا ستدار مستقبلاً من قبل حكومة ظل أعضاؤها سفراء الولايات المتحدة وروسيا وإيران وبعض المندوبين، وستكون البلاد عرضة لسلسلة ثأرية طويلة طالما أن الصفحة طويت دون محاسبة وعدالة.
إن أي احتمال لفرض تسوية سياسية يكون رحيل الأسد خارج حدودها، ستكون وصفة لصراع طويل سينتهي إلى محاصصة طائفية وفرز ديمغرافي كمقدمة لتقسيم الأرض.
أعود إلى الدراسة التي أشرت لها في مقدمة الموضوع والمدعومة من قبل مؤسسات الأمم المتحدة، فهي على ما تورده من نتائج مروعة في كل المجالات وبالأرقام فإنها تقول بأنه "ما زال هناك أمل في عكس الاتجاهات المدمرة في حال إمكانية حل النزاع بسرعة من خلال عملية سياسية ملتزمة تعيد الشعور بالأمن والرفاه والتأهيل لأولئك المتضررين".
ورغم أن الجانب المتعلق بما يشبه التوصية لحلّ الأزمة يعترف بعدم إمكانية استمرار الجهة المهيمنة والمتسلطة في المرحلة القادمة فإن ما تتجه إليه القوى الخارجية المتصارعة يتعارض ومضمون الدراسة التي تمولها الأمم المتحدة حول طبيعة الحل وإنهاء حالة الاستلاب والاغتراب.
أختم بالقول إنها السياسة والمصالح، فما تقرره واشنطن لا يتجاوب مع توصيات الأمم المتحدة وكذا روسيا وإيران وإسرائيل، لكن ما تجب الإشارة إليه هو أن التسويات القائمة على مصالحات غير عادلة لا تدوم طويلاً، وتؤدي إلى استبداد أكبر كما حصل في العراق بعد سقوط صدام.
في سوريا عرف الناس طريقهم ولم يعودوا يطربون لتصريحات "الخط الأحمر" ومقولات "التنحي" و"الرحيل"، ومؤتمرات الأصدقاء والدعم "غير الفتاك".. وأي تسوية تتعارض مع إرادة السوريين قياساً لحجم وهول ما حصل لن تساوي قيمة الورق الذي تكتب عليه.
*علي عيد - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية