ماذا نقول للسوريين بعد مضي أربع سنوات من دمهم المهدور في أروقة "الأمم" وفي شوارع الديمقراطيات وحانات الاستبداد، هل بقي كلام لم يقله الحي منهم، ومن مات قبل أن يُدفن تحت التراب؟ ماذا يقول السوريون الذين هم خارج ساحة المعركة للسوريين الذين هم في ساحة السلاح وصحراء الجوع، ومنافي المدن والأحياء المهدمة؟ ماذا يقول السوريون الذين وجدوا مكانا ينامون فيه في أحضان الدول، دون خوف من برميل متفجر أو شفرة سكين أو طلقة قناص للسوريين الذين لا يجدون مكانا يحمون به أطفالهم من جنون عصابة حاكمة أو سكين "مقدسة" لملثم؟ بل ماذا يقول سوري طليق، حتى لو كان يعيش تحت ركام عمارة قصفتها طائرات العصابة، إلى آخر يلفظ أنفاسه الأخيرة في معتقلات النظام النازي الأسدي؟ شخصيا، لا شيء عندي أقوله إلا بعض الذكريات التي تقول: لا تقلقوا، فقد كنت أفكر بكم. كنت أضع في "حصالة" الزمن كل يوم خمس دقائق، إلى أن تجتمع في تلك "المطمورة" ساعة من الوقت، أصرفها عند الحاجة في "بقالية" الثورة، كما في مظاهرات 15-3 من كل عام، ثم أعود إلى حضن زوجتي أو عشيقتي أو إلى دفتر حساباتي، أتفقد ما ادخرته للأيام السوداء بعد كل هذه التضحيات التي بذلتها من أجل "الثورة"!
في الفيلم الوثائقي" دفاتر العشاق حيطان سراقب" يقول بطل الفيلم، أو بطل الكتابات الجدارية: "أظن أننا خدعنا الناس، ضخمنا لهم الأحلام الجميلة". وأعتقد أن هذا كل ما فعله السوريون "الثائرون" في الخارج.
لقد ضخموا الأحلام، وأحيانا صنعوا أحلاما جديدة للسوريين وباعوها "بالدم" وببعض القروش، بل كان الثمن أحيانا ظهورا إعلاميا على إحدى المحطات التلفزيونية، أو غير ذلك من وسائل الإعلام. ولكي لا يبقى كلامي عن الأحلام التي بعناها لأنفسنا قبل بيعها للآخرين نظريا لا يعتمد على وثائق، سأزعجكم بقراءة هذه السطور، التي تحكي قصة حلم عاشته مجموعة صغيرة من السوريين في مونتريال وأنا من ضمنها.
في الشهر الخامس من عام 2011 بعد شهرين على انطلاق الثورة تقريبا، كنا مجموعة سورية مكونة من خمس أشخاص، وأحيانا يصل العدد إلى عشرة، نلتقي أسبوعيا لتبادل الأخيار ووجهات النظر بالحدث السوري العظيم، الذي كنا قبل شهرين فقط نستبعد حصوله، وأصبح الآن حقيقة، صوتها يجوب الشوارع السورية، ويتردد صداه في مدن العالم: "لقد كسر السوريون حاجز الخوف". وكانت قلوبنا تخفق على وقع أصوات حناجرهم وتكبيراتهم، عندما كانوا يخرجون كل يوم جمعة بعد الصلاة يجوبون شوارع المدن السورية وبلداتها منادين بالحرية. كانت أحلامنا، نحن الذين خارج سوريا، تكبر وتصغر على وقع مظاهرات السوريين في الداخل. في هذا الجو المشحون بالعواطف والأحلام كان كل واحد يضع تاريخا لسقوط النظام وانتصار الشعب. كنت من أشد المتحمسين في استعجال تاريخ سقوط النظام، لقد مضى على حلمي، الذي لم يتحقق، بالعودة إلى سوريا أكثر من عشرين عاما، لذلك كنت مصرا على أن النظام سيسقط في الشهر الثامن، كأبعد تقدير. صديق آخر رأي أن الأمر قد يتأخر إلى نهاية عام 2011، وثالث أعلن أننا متفائلون أكثر من اللازم، وأن أوراق هذا النظام كثيرة، وقدرته على اللعب لا حدود لها. وتنوعت وتعددت الاجتهادات، ودخلنا في رهان على من يصدق توقعه. كان الرهان على خروف محشي يقدمه الخاسر إلى المجموعة، وهكذا خسرت رهاني على الشهر الثامن وأكل الأصحاب الخروف. الصديق الثاني الذي راهن على نهاية العام، خسر، ولكن لم يلتزم بوعده، وانتصر صديقنا الذي كان يرى أننا في عجلة من أمرنا، وأننا نعيش أحلام يقظة. في بداية السنة الخامسة لثورتنا أتساءل: ماذا أصاب أحلامنا، ماذا حل بها؟ لن أبيعكم أحلاما جديدة تبرر سلوكنا وتفسر خيباتنا، نحن بحاجة لقول الحقائق كما هي، واستخلاص العبر، إن أمكن ذلك. أنا الذي خسر رهانه، خسر أيضا عمله، ووصلت إلى سن التقاعد فوجدت فيه حجة للكسل. الصديق الثاني الذي لم يلتزم بوعده تفرغ للعمل المعارض وأصبح أحد زعماء المعارضة، قبل أن يترك قبل عدة أشهر، أحد الأصدقاء، الذي كان صامتا أغلب الأحيان استقال من عمله الجيد وذهب إلى سوريا للمشاركة بالثورة داعيا النشطاء الذين غادروا سوريا للعودة إليها، صديقنا الرابع، استمر في دعم الثورة كلما أتاحت له إمكاناته المادية شراء الثياب وجمعها ثم إرسالها إلى مخيمات اللجوء. الصديق العاقل الذي كان يرى أن الأمر سيطول، استمر في سلوكه اليومي، متشائما، ولكنه يقوم بكل ما يلزم من دعم مادي ومعنوي لاستمرارية الثورة، أما الكتلة الكبرى من الناس فقد توزعت وتشرذمت، وأخد بعضها يأكل البعض الآخر نميمية وتخوينا وتقصيرا. في مقابل كل ذلك كان السوريون في الداخل يستمرون في ثورتهم رغم الموت والجوع والعطش والكيماوي والبراميل ورغم استيراد المليشيات الطائفية العابرة للأوطان والحدود لقتل السوريين.
رغم كل ذلك، يحاول السوري من جديد استعادت زخم الثورة من خلال رفع علمها، شعارا للكرامة الوطنية وللربيع السوري الذي يحاول العالم وأده. أريد أن أقول إن الثورة مستمرة، رغم كل المصائب الذاتية أو الوافدة، خاتما بحوار جرى مع المرحوم والدي قبل أكثر 39 سنة: عندما زارنا أبي في سجن حماه للمرة الأولى عام 76، أنا وأخي الكبير، بكى وهو يقول: "بهدلتوني بين الناس، يقولون لي: أولادك مجرمين، من شان هيك هنن بالسجن". قلت له: ولكن يا أبي يجب أن تفتخر بنا، نحن لسنا لصوصا ولا قتلة، نحن معارضون سياسيون، وأنت تعرف أننا مع الحق. قال: يا ابني السلطان قادر أن يقنع الناس بأن أشرف خلق الله هم مجرمون، فكيف وأنتما أولاد شرطي وفلاح، كيف تقنع الآخرين بعكس ما يقوله السلطان؟ استطاع النظام الأسدي أن يقنع الناس بالحديد والنار أن من يقف ضده من السوريين هو مجرم يستحق الموت أو السجن، وهو ما يفعله يوميا منذ أربع سنوات وحتى الآن.
وكان لا بد من انتظار 35 سنة، بعد تلك الواقعة، كي يقول السوريون إن السجين هو بطل وإن الشهيد هو عزنا وتاج راسنا، وإن المغتصبة هي شرفنا. وأن يقول الناس في الشوارع، وبصوت عال: يلعن روحك يا حافظ.
أخيرا: هل نستطيع، في السنة الخامسة للثورة، لملمة أجزاء أحلامنا المكسرة؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية