في مثل هذا اليوم، وقبل أربع سنوات، قال شبان سوريون من محافظات عدة بسوق الحميدية بدمشق "الشعب السوري ما بينذل"، فطارت الشرارة لحوران التي أشعل أطفالها الثورة، لتتطاير شررها "درعا حنا معاك للموت" لحمص وإدلب والساحل وحماة ودير الزور ..وأخيراً إلى حلب.
في انتفاضة شعب هي الأحق، بين ما كان يسمى "الربيع العربي" على نظام أعطاه الطيبون والحالمون والمنبطحون، وحتى المعارضون، فرصة تلو فرصة، وعولوا على سفسطته وما أتى به من شعارات وأوهام وتطوير وتحديث، ليوقعهم بفخ "ربيع دمشق" قبل أن يعلن عن تبعيته لسواه ويرد لاحقاً على صمتهم لتوريثه، وقت طالبوا بالحرية والكرامة ولجم تمدد "آله وصحبه" وتحكمهم بزمام الاقتصاد والأمن والمصير، بأبشع رد يمكن أن يعرفه التاريخ، إذ لم تقف ثأرية النظام وأوهامه عند الاعتقال والاغتصاب ورمي الشعب بالبراميل وضربهم بأسلحة كيماوية، بل تتكشف تباعاً أن "عصابة الأسد" اقترفت أشنع الجرائم بحق الإنسانية بقتلها تحت التعذيب عشرات آلاف السوريين، قبل أن تبيع سوريا ومقدراتها، فوق التراب وتحته، للنكوصيين الفرس، ليستعيدوا مجد الساسانيين والامبراطورية التي تمنى ابن الخطاب أن يكون بين العرب وبينها جبل من نار.
في لفتة لأيام وسني الثورة، أرى كل ما فيها طبيعيا، إن لم أقل متوقعاً أو جميلاً، ولا أظن من تبرير أو استمالة في ذلك.
فشعب تشوه بمنهجية عبر عقود أربعة، وتخلى عن قضيته "الأصدقاء" فضلاً عن قيادة الحرف والانحراف، التي قادها الأشقاء، وبقي للعام الخامس صامدا، يطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية وحقه في اقتسام الثروة وتداول السلطة، فهو شعب عظيم، سيذكره التاريخ وإن خانه التأريخ، وسيعرف كيف يصوب ثورته ثانية وثالثة، وينقلب على كل تطرف وتخريب، ويؤسس لأنموذج حضاري، يكون فيه الإنسان البوصلة والأداء التقويم والقانون فقط، مظلة تخيم وتنصف الجميع.
الحلم ليس وراء الباب لا ريب، لكنه آت ولو بعد تجارب احتلال أو حلول تقسيم، فمن قرأ التاريخ ويعي خصوصية الجغرافيا، سيعرف أن هدف السوريين سيغير من مشهد الشرق على الأقل، لذا لا غرابة في وقوف الشرق والغرب دون تحقيقه، وليس من براعة استنتاج في أن دعاة صداقة الشعب ومؤيدي ثورته، هم أول وأهم من نهشه، فنيران "الربيع العربي" ستأتي على عروش من توريث وزعامات من كروش ورق، فكان الاتفاق الوحيد بين الجميع، وإن اختلفت الأدوار والطرائق، أن ادفنوا حلم الشباب في عاصمة الأمويين إن كنتم تعقلون.
صور لا حصر لها تقفز على نوافذ وأسوار الذاكرة اليوم، بعضها مخضب بالأمل وجلها معمّد بالدم، لكن -قصارى القول- كل تفصيلة وفي أي قطاع في سوريا، يستأهل ثورات بدل الثورة، وربما من الجحود إن لم نقل أكثر، وصف الثورة بغير مافيها بعد تشويهها وركوب كثر على صهوتها، بربطات عنق مستوردة أو بعباءات مقلوبة. فلو كنا نعلم ما سيجري لما قمنا، هو من الحماقة السياسية أكثر منه من الانهزام واليأس، فما جرى لم يك من التخطيط المسبق بشيء، وإن استغلت الأطراف وسيّرت الأحداث بما يرتضي المخططين فيما بعد.
نهاية القول: سألني صديق بمناسبة ذكرى انطلاقة الثورة، ترى لو حافظ الأسد كان رئيساً وقامت الثورة، فهل تتوقع أن تصل الأمور لهاهنا.
أعتقد ما كانت لتصل أجبت، وأعتقد أن الراحل حافظ الأسد ورغم أنه مؤسس الديكتاتورية بسوريا الحديثة وصاحب مدرسة الدولة الأمنية العميقة وصاحب السبق في وضع الطائفية على نار هادئة.. وإن شئتم أكثر، لكنه كان يجيد المقايضات وقراءة التوازنات ويلعب على حافة الهاوية دون الوقوع، ولعل في سحب فتيل الاصطدام مع أنقرة عام 1998، دليلا، كما في دموية قمع ثورة الإخوان المسلمين جريمة، وفي كلا المثالين دليل على إجادة التعامل بما تقتضي الظروف ويتطلب البقاء على كرسي الأبدية، ولكن دونما الوصول لتبديد السلطة وبيع سوريا بالمجان بعد تدميرها وقتل وتهجير شعبها وتأهب من بقي للثأر بعد قتل أي إمكانية للتعايش.
لكن الوريث سيق من وهمه وتضخم أناه، لينفذ المؤامرة التي قال إنه يعرفها منذ بداية الثورة، ليترك، وقت تبدت ملامح المشهد الأخير، القرار الاقتصادي لروسيا والعسكري لإيران، وسوريا الأم لأحدث احتلال مباشر في التاريخ الحديث.
الرحمة لكل من قضى على الأرض السورية كرمى لهدف وطني وغاية نبيلة، والصبر لكل من اكتوى بنيران حقد العصابة الحاكمة أو بسيف الغرباء..والسلام لسوريا الواحدة ..وعلى ثورة السوريين السلام.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية