"عندما تكون طبيباً، ولديك شخص مريضٌ لا علاج ظاهراً لحالته، أو لا دواء متاحاً له بين يديك، فجل ما يتوجب عليك فعله حينها، هو المساعدة في التخفيف من آلام المريض، أو العمل على إطالة حياته، ريثما يتوفر له العلاج المناسب." ربما تعبر هذه الجملة التي قالها الدبلوماسي المخضرم "ستيفان دي ميستورا" المبعوث الأممي للشأن السوري، عن طبيعة مهمته ودوره الحالي المعلن على الأقل.
الجملة السابقة التي وردت في سياق المؤتمر الصحفي، الذي عقده المبعوث الأممي في "شاتام هاوس" أو المعهد الملكي البريطاني للشؤون الخارجية قبل يومين، تزامنت مع قيام السيد دي مستورا بعرض كتاب ضخم، علق على المشهد مدير المعهد البريطاني مداعباً بالقول:"ظننت أنك أتيت للمؤتمر حاملاً معك دليل الهاتف في بريطانيا." كان المجلد الضخم يحوي بين صفحاته أسماء موثقة لمائة ألف مواطن سوري قتلوا في العامين الفائتين، كما قال السيد دي مستورا، مذكراً الصحفيين بأن هناك أكثر من 220 ألف قتيل سقطوا في هذه الحرب المستمرة منذ خمس سنوات، بالإضافة إلى مليون مصاب وثلاثة ملايين ونصف لاجئ سوري في دول الجوار.
هذه الأعداد الكبيرة التي تسببت بها الكارثة الإنسانية المستمرة هي التي ينبغي، بالنسبة لدي مستورا، أن تغير قواعد اللعبة وتخرج القضية السورية من منظور اعتبرها منذ فترة مجرد "قضية إحصائية"، لكن المبعوث الدولي وفي غمار حديثه عن الأزمة الإنسانية في سوريا لا يخفي أن ظهور داعش والحملة العسكرية ضدها كانا العاملين الأساسيين اللذين ساهما في تغيير قواعد اللعبة، وإخراج السوريين من ركن "الإحصاءات " إلى حيز السياسة الواجبة والعملية، رغم تذكيره بأن مجلس الأمن ما يزال منقسماً، وأن اللاعبين الدوليين الذين كانوا يؤكدون على ضرورة إيجاد حل سياسي للأزمة السورية كانوا من ناحية أخرى يساهمون في استمرار الصراع أملاً منهم بنجاح الحل العسكري.
في سياق المؤتمر الصحفي، ذكر المبعوث الأممي أن استمرار الصراع في سوريا يشكل بيئة صالحة يستفيد منها تنظيم داعش؛ ولذلك ينبغي إضافة هذا الاعتبار الاستراتيجي للشأن الإنساني من أجل الدفع بخطته في تجميد القتال في حلب أولاً، وقد بيّن السيد دي مستورا اختياره لمدينة حلب، رغم صعوبة هذا الاختيار الذي يقارب الاستحالة ظاهرياً، بأن حلب هي حلب، المدينة السورية الكبرى التي يعرفها العالم كله، وهي المدينة التي تمثل مزيجاً ثقافياً وحضارياً مهماً، مبيناً أن ذلك يعد بداية غير كافية وبأنه يتفهم ويحترم رفض بعض فصائل المعارضة العسكرية لخطته الجزئية، لكنه أشار إلى أنه ومن واقع خبرته الطويلة في لبنان والعراق وأفغانستان، يرى استحالة تطبيق تجميد للقتال في كل سوريا دفعة واحدة وفي وقت متزامن. وكما أصبح معروفاً فإن خطة دي مستورا تقتضي وقف القصف الثقيل من قبل الحكومة السورية، والذي بين المبعوث الأممي أنه تسبب في مقتل ثمانين بالمائة من الضحايا المذكورين في الكتاب، في مقابل تجميد الفصائل المسلحة قصف مناطق النظام في مدينة حلب، مبيناً أن ذلك سوف يشجع السوريين على متابعة الحوار الذي بدأ في القاهرة وموسكو، وآملاً في الوقت نفسه بأن تعقد جولات ثانية من هذا الحوار في كلتا المدينتين مستقبلاً، كما شدد في الوقت ذاته على اعتبار وثيقة جنيف1 المرجعية الأساسية للحوار الذي يرى أن نتائجه يحددها السوريون أنفسهم لا غيرهم.
من ناحية أخرى لم ينفِ دي ميستورا اعتقاده بأن لإيران دوراً فاعلاً ومهماً على ساحة المشهد السوري، وأن هذا الدور يفرض إشراكها في أي صيغة حل سياسي للأزمة السورية.
ويبدو أن إدراك المبعوث الدولي للنفوذ الإيراني المتعاظم هو ما جعله يرفض الإجابة عن سؤال أحد الصحفيين عن موقف المجتمع الدولي من تزايد الوجود الإيراني في شمال سوريا وجنوبها.
لا ينكر صمت المبعوث الدولي تعاظم ذلك النفوذ وتغوله، رغبة منه في عدم زج القضية السورية مجدداً، في إطار الاستقطاب الإقليمي الواضح، باعتباره يطمح كوسيط دولي للعب دور يتجاوز الوظيفة السابقة للأمم المتحدة في تقليل آثار العنف من الناحية الإنسانية على حد تعبيره، إلى إيجاد مخارج جزئية للوضع القائم، من خلال تجميد القتال في مناطق معينة من حلب.
لاشك أن تأكيد دي ميستورا على الدور الإيراني يبطن إدراكاً متزيداً لدى الأوساط الدولية بأن القرار العسكري في سوريا لم يعد في دمشق، بل أصبح في طهران، وأن العملية السياسية التي ينتظر منها الخروج بحل سياسي للأزمة السورية لا يمكن أن تنطلق دون مباركة إيرانية، على الأقل ضمن التوازنات الإقليمية الحالية التي يتوقع أن تتغير مع التقارب السعودي –التركي، وانضمام مصر إلى الجهود الدولية في مكافحة الإرهاب وإيجاد حل سياسي للأزمة السورية.
لكن السوريين الذين طالما عدهم المجتمع الدولي "قضية إحصائية" لا يراهنون كثيراً على خطة دي ميستورا، ولا سيما أن تلك الخطة الأممية تقتصر على تجميد القتال، دون أن تأخذ بالحسبان حجم اختلال القوة بين النظام الذي يحصل على دعم مستمر من حلفائه، وبين كتائب الثوار التي تقاتل بسلاح خفيف ومتوسط. ومع وجود عدم ثقة بين الطرفين وتاريخ حافل للنظام بالانقلاب على التزاماته، فإن أي خطة لا تشمل قرارات واضحة بتجميد المساعدات العسكرية للنظام، ووجود مراقبين دوليين لن يكتب لها النجاح والاستمرار.
قد تعيق الالتزامات الدبلوماسية التي تحيط بدور المبعوث الأممي ووظيفته الكشف عن الأدوار الحقيقية للاعبين الدوليين في الصراع السوري، هذه الالتزامات التي تحرر منها المبعوث الدولي السابق الأخضر الابراهيمي حينما كشف في حديث له مع جريدة "الوطن " السعودية عن حقيقة الدور الإيراني في كل من سوريا والعراق، وعن خداع بشار الأسد للعالم باستدراج تنظيم داعش إلى سوريا، وتسليمه مناطق واسعة لتصوير الثورة السورية على أنها "إرهاب اسلامي"، ومن ثم طرح نفسه شريكاً مضموناً في الحرب على هذا الإرهاب.
لكن السوريين الثائرين لن يقبلوا بتمرير خطة تغمض طرفها عن الأسباب الحقيقية لكل تلك الكارثة الإنسانية، التي يقول دي ميستورا إن السوريين باتوا يصرخون "خلاص، كفاية" على حد تعبيره في المؤتمر الصحفي، طلباً منهم في إنهائها، دون أن تضمن لهم أن جسدهم المبتلى بمرض الديكتاتورية منذ نصف قرن سيشفى من سقمه بشكل نهائي.
مشاركة لـ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية