مقدمة لا أظن أن السوريين قد تركوا شيئا للقول أو الكتابة عنه فيما يخص المسألة السورية، هناك "أطنان" من المفردات التي تصف وتحلل وتحكم وتشتم وتتوقع، قد يكون من المفيد الالتفات إلى دواخلنا، لنشر ما يمكن نشره، لعل العفونة تخف بسبب ضوء الشمس فتسمح لجوهرنا أن يلمع، لذلك أنشر هذه النصوص الصغيرة، التي كتبت أغلبها عندما كنت في اسطمبول، أو من وحي الزيارة.
*طقم الأسنان
وأنا أغادر البناية التي أسكن إحدى شققها، التقيتُ بالسيدة التي تنظف الدرج ومدخل البناية، فألقيتُ السلام عليها بالفرنسية، لأنها لا تعرف العربية ولا التركية، وقلتُ: بونجور مدام. انتصبت المرأة وكأن سحرا أسود أصابها، وقرأتُ عشرات إشارات الاستفهام والتعجب في عينيها وعلى وجهها.
ولما كنت من الأشخاص الخجولين، لم أسمح لنفسي بالتدقيق في ملامحها خوفا من اتهامي بالتحرش الجنسي والعنصرية، فالمرأة جميلة جدا وسوداء جدا، لذلك تابعتُ طريقي وأنا أحاول فك اللغز الذي ارتسم على وجه المرأة بعد أن سلمتُ عليها. بعد أن أصبحتُ في الشارع، رأيتُ نفس علامات التعجب والاستفهام على وجه الحلاق الذي أزوره مرة في الشهر، بعد أن قلت له بالتركي: مارابا، يعني مرحبا بالعربي، وعاد السؤال بقوة هذه المرة إلى ذهني: ماذا أصاب الناس هذا اليوم، هل صعقهم جمالي ووسامتي وأناقتي، أم شبابي المتوثب الذي يكاد يخرج من ثيابي! شعرت أن اللعاب قد تجمع في فمي وأكاد أن أختنق به، وشعرتُ بنوبة سعال تهجم علي، فوضعت يدي على فمي لأمنع آثارها من الخروج، وفجأت اكتشفت سر دهشة المرأة واستغراب الحلاق: لقد نسيت وضع فك أسناني الاصطناعية، لذلك كانت مغارة فمي تظهر عندما أتكلم.!!!!!
*من يومياتي العثمانية
في اليوم الأول من أيلول، استيقظت في السادسة صباحا على أمل أن أكون من أوائل رواد "آية صوفيا". وصلت إلى الباب قبل الثامنة بقليل، صدمتني يافطة نحاسية معلقة قرب الباب تقول إن الاثنين هو يوم عطلة، أصابني الإحباط، أنا الذي كان الحماس والنشاط يغلفاني من الصباح، تساءلت: ماذا يمكنني فعله الآن، هل أعود إلى المنزل؟ هل أذهب إلى مكتب وائل لسؤال الموظفة عن إجراءات الإقامة الدائمة للكندي في تركيا؟ رأيت سهما يشير إلى اتجاه "البازار الكبير"، خطر ببالي الذهاب والضياع هناك، شعرت بعطش إلى القهوة العربية، مسحت المكان بنظراتي فرأيت مقهى في الطرف الآخر من ساحة "آية صوفيا"، توجهت إليه وطلبت فنجانا مضاعفا من الأسبرسو مع حليب، أخرجت رواية "الزّهير" من الكيس، وقررت الاستفادة من الطقس الجميل، والصباح المنعش، حيث ذكرني عدد الناس القليل في الساحات برمضان حمص الصيفي، عندما كنت أستغل انشغال الصائمين بالإفطار في بيوتهم فأذهب إلى مقهى التوليدو لشرب القهوة وتأمل الشوارع الخالية من الناس إلا ما ندر، هكذا كانت ساحات آية صوفيا والجامع الأزرق والقصر السلطاني "توب غابي" هذا الصباح، وكان للقهوة طعم حمصي بامتياز. رشفت قهوتي بهدوء ومتعة وأنا أقرأ قصة حب جميلة. رفعت رأسي بعد أن ارتوت روحي من القهوة وبدأت بتفقد المكان، اكتشفت أنني أجلس بين حمام حريم السلطان، الذي أمرت ببنائه السلطانة "هرم" زوجة السلطان سليمان القانوني عام ١٥٥٦ وبين الجدار الخارجي لآية صوفيا، ولم أمنع نفسي من التساؤل عن معنى وجود كندي من أصل سوري، في هذا المكان، بعد مرور ما يقارب (٥٦١) سنة على سقوط القسطنطينية بيد محمد الفاتح، هذه المدينة التي كانت مع كنيستها "آية صوفيا" تعتبر المكان المقدس الثاني بعد القدس عند المسيحيين الأرثوذكس، وخلصت إلى سؤال آخر: هل هي الشماتة بالعالم الغربي الذي انتصر عليه محمد الفاتح، هل لمشاعري علاقة بالمخازي التي ارتكبتها الحملات الصليبية أثناء سيرهم نحو القدس، وشماتتي بهم، لا أعرف، ولم أستطع الوصول إلى رأي جازم في هذه النقطة. بدأت القهوة تحمل مرارة التاريخ في هزائمه وانتصاراته، وقررت التوقف عن التساؤل، ففي غياب محاور، تزداد الأوهام الذاتية وتتضخم دون أن يوقفها أحد.
*داعشي!
رغم اتهامي بالداعشية من قبل بعض الأصدقاء، ومحاولة انتسابي إلى الإخوان المسلمين في وقت سابق قبل أكثر من عامين، لزكزكة رجال الدين المسيحيين الذي وقفوا إلى جانب الأسد، ورغم الثقافة الإسلامية التي أعتز بانتسابي إليها، رغم كل ذلك، وجدت نفسي البارحة، أثناء زيارتي إلى متحف آية صوفيا، الذي كان جامعا، وقبلة كنيسة أرثوذكسية، أنشدّ إلى تراث مسيحي أرثوذكسي لامس بعض جوانب روحي، لأنه يشبه مناخ كنيسة مار جرجس، أو "الخضر" في قريتنا "حزور" حيث كانت طفولتي الأولى، فوقفت أمام هذه اللوحات في الطابق الثاني من المتحف، وطلبت من حسناء أوروبية أن تلتقط لي صورة في المكان، فقالت بعد أن انتهت: وكأن هناك شبها بينك وبين هذه اللوحات. قلت لها: نعم يا سيدتي، فقد كنت قديسا سوريا في زمن المسيحية الأول، عندما كان المسيحيون يناضلون ضد الرومان وأحبار اليهود، أما الآن فأنا أشبه سوريا معذبا وقع بين أيدي نظام القتل الأسدي في دمشق.
*حلبي!
في فيلم "الليل" لمحمد ملص، ينتهي بطل الفيلم المناضل، بعد أن خسر كل شيء، إلى الاتكاء على جدار الجامع بعد أن ينهي صلاته، مسلما جسده وروحه إلى خالقه. قبل يومين، وأنا في في جامع السلطان سليمان القانوني، لفت نظري شيخ متكىء على جدار المصلي، في ركن غير بعيد عني، شكله ذكرني ببطل فيلم محمد ملص، فأشرت له أسأله إن كان يسمح لي بالتقاط صورة له فوافق بحركة من يده. تقدمت بعدها لأطلعه على صورته في الكاميرا، فقال بلهجة حلبية فصيحة: اللقطة بعيدة خاي، فوافقت معه. سألني من أين أنت، فقلت حمص، ورددت السؤال له: وأنت يا حاج؟ قال: حلبي، ثم عرض علي آثار العمليات الجراحية في يده وقدمه، وأخيرا قال: أنتظر العملية الأخيرة في يدي، وبعدها سأعود إلى حلب. قلت له: هل عائلتك ما زالت في حلب؟ قال: لا، لم يبق لي أحد، فقد قتل أحد البراميل المتفجرة الذي ألقته طائرات ابن الأسد كل أولادي، وكانوا خمسة. قلت له متأثرا: رحمهم الله، ولكن لماذا تريد إذا العودة إلى حلب؟ قال: يا أخي وماذا أفعل هنا، الموت هناك سيكون أحسن من الموت في الغربة. لم أتكلم، تبخرت الكلمات، وغادرت الجامع وأنا ألعن حافظ الأسد وسلالته، وتساءلت: هل يكفي ذلك للانتقام منه؟
*الأسئلة هي باب المعرفة
قبل سنوات، عندما كان العمر يسمح بالقيام بمغامرة جديدة، تعرفت على صبية سوداء؛ كنت طالبا في صف اللغة الفرنسية وكانت معلمة، كنا متقاربين بالعمر، وكان عندي فضول للمس اللون الأسود، الذي ارتبط في بلادنا بالمناسبات الحزينة أو المناسبات الرسمية، وفي الحالتين كان لمسه بعيدا عن أصابعي. في الصف، وبعد أن استطعت "فك الحرف" دعوت المعلمة شديدة سواد البشرة إلى فنجان قهوة خارج المدرسة، فوافقت دون تردد. لا أعرف ماذا كان في داخل عقلها عندما وافقت على دعوتي، ولكن كنت أعرف ماذا أريد؛ أريد لمس أسودها بيدي، تحسسه بأصابعي، واذا كان للون رائحة، فأريد شمه. في الموعد المحدد، التقينا في مقهى ومطعم الوجبات السريعة "ماك دونالد"، شربنا القهوة، تحدثنا قليلا عن اللغة الفرنسية، قالت لي إن أصلها من هاييتي، ولكنها لم تعرفها أبدا، قالت إنها تعرف بشكل عام المشاكل السياسية التي تعاني منها البلدان العربية، وقالت: إن أهلها يتحدثون أحيانا بعدائية عن السوريين الأثرياء في هاييتي، وكانوا يحلمون بالتقرب من أي سوري في الجزيرة، لأنه يعني الاقتراب من الثروة والسلطة. مضى الوقت سريعا، وكنت أحيانا أسمح لأصابعي المرور على راحة يديها المنبسطتين على الطاولة أمامي، ورغم أن باطن الكفين لم يكن أسود تماما، إلا أنه كان يكفي خيالي لبناء الصورة اللازمة عن المناطق الأكثر سوادا. كنت قليل الكلام، ليس فقط بسبب صعوبة اللغة وقلة المفردات، وإنما لاستغراقي في خيالاتي، فجأة قالت المعلمة: أسئلتك قليلة، ماذا تريد أن تعرف عني، عندما دعوتني إلى هنا، ماذا كنت تريد أن تعرف، ألم ترتب أسلئلتك في البيت؟ شكرتني وقالت وهي تستعد للذهاب: دون أسئلة كثيرة لا تستطيع المعرفة، ستبقى أسير أوهامك، شكرا على القهوة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية