صحيحٌ إن السلطات مفصولة في فرنسا، وصحيحٌ أيضاً إن الحريات السياسية مكفولة وأن كلّ حزب يعبر عن نهجه ورؤيته، ولكن لا تبدو زيارة النواب الفرنسيين الأربعة مؤخراً إلى دمشق ولقائهم "طاغيتها"، رسالة تافهة أو عديمة المضامين.
فهؤلاء لا يمثلون أشخاصهم، بل يمثلون أحزاباً وازنة في المعادلة السياسية الفرنسية، وزيارتهم وإن كانت منبوذة من قبل فريق رئيسي حاسم في بلادهم، فإنها تلاقي القبول من قبل فرقاء آخرين ربما تحملهم الصناديق إلى واجهة القرار يوماً ما.. كما أن الزيارة تتجاوز حدود باريس ودمشق، فهذه الزيارات عادة يكون الغرض منها إحداث خرقٍ في جمودِ مسارٍ ما، وتكون بعثة دولية أكثر منها محلية، فها هي مؤسسات دينيةٌ فاعلة في الغرب تبارك الزيارة ولو من طرفٍ خفيّ، ناظرة إلى أهمية تحريك المسار الراكد من زاوية ضرورة التحرك لإنقاذ مسيحيي الشرق الذين يتعرضون للإبادة على يد "داعش"، كما تقول.
أما النتيجة الأبرز للزيارة، فقد أتت من واشنطن، على لسان مدير الوكالة الوطنية للاستخبارات، جيمس كلابر، الذي قال، مؤخراً، في شهادة أمام أعضاء مجلس الشيوخ: "إن النظام قد ينتصر في الحرب".
هذه الـ"قد" التي تظهر للمرة الأولى في الخطاب الأمريكي، هكذا بكل وضوح ومباشرة، لا تكتسب خطورتها وجديتها من مغزاها فقط، بل من أهمية موقع الشخص الذي أطلقها، فمعظمنا نسلّم بأن أجهزة المخابرات هي التي تقود وتوجه دفة الحرب، وتعرف ما لا يعرف حتى الجنود الذين يخوضون غمارها.
وهذه الـ"قد" تعيدنا بالخطف خلفاً، إلى قيود أمريكية واضحة على تسليح الجيش الحر وتدريبه، وحصر مهمة من تدربه منهم بقتال تنظيم "داعش"، ما يطرح سؤالاً عريضاً عمن سيتولى مهمة قتال الأسد، بعدما أحجمت إدارة أوباما وحلفاؤها، وأعفت الأسد من المعركة الوشيكة مقابل تسليم أسلحته الكيماوية بعد مجزرة الغوطة صيف العام 2013..
المقال الذي نشره وزيرا الخارجية البريطاني "فيليب هاموند" والفرنسي "رولان فابيوس" مؤخراً، لا يمكن قراءته خارج السياق، ويدلّلُ على أن شيئاً ما يحدث وراء غلالات سميكة لإعادة إنتاج نظام الأسد المتهالك.. فالدولتان تعتبران من أشد المعارضين لإعادة شرعنة الأسد، وتقفان سداً منيعاً في وجه حكومات وأجهزة استخبارات أوروبية تريد حداً أدنى من العلاقات مع نظام الأسد بحجة مكافحة الإرهاب.
الوزيران قالا: "يحاول بشار الأسد تلميع صورته أمام العالم، وعبر وسائل الإعلام الغربية، يستغل الأسد فظائع المتطرفين ليطرح نفسه شريكاً لنا في مواجهة فوضى بلاده، ويبدو أن البعض يميلون إلى ذلك، قائلين إن ظلم الأسد ودكتاتوريته في وجه التطرف أفضل من الفوضى"..
فهل قصد الوزيران هذه الـ"قد" الأمريكية؟..
القضية السورية تبدو أبعد بكثير من أن يتم التوافق عليها حتى بين الحلفاء، وقد أظهرت الأحداث السابقة تبايناً كبيراً في المواقف بين فرنسا والولايات المتحدة مثلاً، فرنسا التي كانت يد رئيسها على "زر" الإطلاق، لبدء حملة عسكرية ضد نظام الأسد، عندما تراجعت إدارة أوباما في اللحظة الأخيرة، وها هي مقاتلات فرنسا تشارك التحالف غاراته على أوكار "داعش" في العراق، رافضة حتى الآن التدخل ضد التنظيم في سوريا، إذ تربطه هنا بحرب شاملة على الإرهاب تقتضي بالضرورة قتال النظام الذي أباد الأبرياء بكل وسائل القتل الكيماوية والعمياء.
وهذه الـ"قد" الأمريكية، يمكن تمريرها إلى إيران كرسالة طمأنة مؤقتة ومشروطة، ضمن المفاوضات النووية الطويلة والمعقدة التي تخوضها وتقودها الولايات المتحدة لتقليم مخالب الخطر الإقليمي الأدهى في الشرق الأوسط، ومفادها: قد نسمح لكم بنصر جزئي هناك يتم التوافق على شكله ومضمونه وأبعاده وتوقيته.
وهذه الـ"قد" التي تُعرب لـ"التقليل" إذا سبقت فعلا حاضرا في لغة العرب، كما وردت، قد تكون "للتوكيد" في لغة السياسة العالمية، إلا إذا استعاد السوريون زمام المبادرة وأرسوا قواعدهم، وفرضوا على اللاعبين كافة الانطلاق منها على أساس أولوياتهم، وهذا ما لا تحمله الأخبار القادمة من جبهات حلب ودرعا، حيث كل تقدم يمكن أن يكون حاسماً ضد قوات الأسد، تعيقه معارك جانبية تهدم سقوف البيوت والأحلام والتوقعات.
ياسر الأطرش - مساهمة لــ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية