في سابقة، وربما قنبلة من العيار السياسي الثقيل، أعلن رئيس الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة خالد خوجة خلال لقائه الرئيس الفرنسي أخيراً "قبول المفاوضات مع النظام من دون شرط مسبق يتعلق بالرئيس الأسد". قبل أن يستدرك، أن إسقاط الأسد مسألة حتمية وشرط ضمن أهداف ثورة السوريين في الحرية والكرامة.
بداية القول، إلى أي حد يمكن فهم ما قاله رئيس الائتلاف ضمن ما يسمى "للاستهلاك الإعلامي" أو رمي بالون اختبار سياسي في واقع تبدل الوقائع على الأرض السورية بعد الاحتلال الفارسي العلاني، وتغيّر المواقف الدولية من نظام بشار الأسد عبر تعويمه إعلامياً حيناً، ومحاولة إعادة إنتاجه سياسياً على أنه جزء من الحل، بقية الأحايين، والتراخي تجاه الثورة السورية، بعد غرقها المقصود بالتطرف وإلباسها حلة الإرهاب، حتى ممن تبناها ووصف ضمن أصدقاء الشعب السوري. ما دفع بخوجة ليختبر نوايا الأسد ويحرج داعميه بموقف أن لا تشنّج لدى المعارضة في الوصول لحل سياسي يبعد السوريين عن القتل اليومي ويخرج سوريا من فخ التطرف الذي سيمزقها لعقود وعن حل التقسيم الذي قد يصبح يوماً "لابد مما ليس من بد".
أم ترى تفهم تصريحات خوجة ومحاولة استيعابها من خلال التبدلات الذاتية على الأرض، بعد هزيمة "حزم" واحتدام القتال فيما بين "المعارضة" والإفلاس المالي والسياسي الذي يعانيه الائتلاف، والموضعية من ترك سوريا لإيران كبند تفاوضي على سلاحها النووي، هي -التصريحات- ورغم ذلك، خيانة لمبادئ الثورة وفضاً لبكارة شعاراتها وحلم السوريين.
قصارى القول: سينقسم السوريون، أو بالأحرى انقسموا، جراء تصريح خوجة، فطرف يرى في "دون شرط مسبق يتعلق بإسقاط الأسد" خيانة للثورة والدم الذي سفك، وتنازلاً لا يمتلك رئيس الائتلاف صلاحية منحه، إن واقعياً نظراً لعدم سيطرته على الأرض وعدم كفايته للثوار وعدم نقله الائتلاف والحكومة للداخل، وغير ذلك كثير. وسيستمر أنصار هذا الرأي بالنضال، وإن القولي وعبر منابر التواصل الاجتماعي، منهم لآخر سوري ومنهم حتى النصر، أو بالفعلي بساحات المواجهة، ولو تعاونوا "مع الشيطان" شريطة ألا يبقى النظام الأسدي الذي قتل وهجر أكثر من نصف السوريين وحوّل عاصمة الأمويين لساحة حرب مفتوحة يدخلها كل من يريد إحياء مجد ضائع أو يسعى لدور وحصة من الجسد السوري الممزق. لينطلق أنصار الرأي الآخر، من واقعية ربما فجة، وقد لا تتناسب مع أحلام الثوريين ولا توازي الأثمان التي دفعها السوريون، ليقولوا إن الحل السياسي هو الطريق الوحيد والممر الإجباري لعبور سوريا من الدمار والاحتراب، إلى ملامح دولة قد تصوب هيكلها المساعدات وإعادة الإعمار، وإن تحت وصاية أو انتداب معاصرين. ويزيد أصحاب هذا الرأي، بأن الأزمة السورية وصلت مرحلة الاستعصاء في واقع تبديل هوية ثورتها، لحالة جوع وتشرّد أولاً، ولقضية إرهاب وخطر عالمي فيما بعد، ما جعل من تغيير النظام، حتى ممن قالوا "ارحل" بعد أول دم سفكه رجال الأسد، أو ممن حرفوا سكتها عبر مال وتشويه إعلامي، هدفاً مؤجلاً أمام فزاعة الإرهاب وصفقات التسويات التي صارت سوريتنا المغتصبة، ورقة بيد كل من يريد الزعامة والتفاوض وإعادة رسم الجغرافيا.
نهاية القول: ربما يعلم رئيس الائتلاف خالد خوجة يقيناً، أن نظام بشار الأسد لن يقبل، رغم تنازل "شرط إسقاطه المسبق" بأي حل تفاوضي مع المعارضة، لأنه مازال يتنكر لمطالبها وينكر وجودها حتى، وإن قبل، فبهدف المراوغة وشراء الزمن الذي اعتمده أولا لتشويه الثورة من مبدأ "كلما طالت بتلم غبار" أو تحت ضغط روسي أو أمريكي، فإنما سيفاوض من هم تحت سقف الوطن الذي يحدد ارتفاعه بحسب مزايا الوراثة وميزات المصالح.
لكن رئيس الائتلاف نسي، أو قد يكون تعمّد من منطلق إحراج الآخر ومموليه، أن قرار التسوية في سوريا، هو قرار أمريكي أولا وأخيراً، ولم يعد من دور ولا تخصص النظام السوري، فاحتلال سوريا بشكل مباشر من الفرس وغير مباشر من شذاذ الآفاق وإيجاد ممثلين ومقاتلين لكل من يهمه الأمر، يجعل من رميه "تنازل إسقاط الشرط المسبق" مجانيا وفق أكثر الأوصاف أدباً في قواميس السياسة، وقد تفيد النظام الذي يتلقى رسائل طمأنة وأسلحة وأموال بقاء وإن شكلياً، ليكمل الدور الذي ينفذه، وهو ما اعترف به مرارا "المؤامرة على سوريا أرضاً وشعباً".
وقد تقطع واشنطن أي يد تمتد على الأسد قبل إكمال المهمة حتى فصلها الختامي. لذا، مع بالغ الاحترام للسيد خوجة، أعتقد برمي ورقة استقالته وحل الائتلاف وإعلان الحالة السورية حركة تحرر وطني من جميع المحتلين، ليقطف ثماراً سياسية وغير سياسية، وليس من جنون سياسي في هكذا طروحات، بعد كل التخلي والتخاذل والخذلان الذي يلف الثورة، ابتداء من دول البترودولار التي تضن في إعطاء مال يصرفه خوجة لموظفي الائتلاف والحكومة كما تقاعست من ذي قبل باتخاذ قرار يوازي قرارات حلفاء الأسد، وصولاً لمواقف الكبار والمنظمات الدولية التي تعبت حتى من إحصاء القتلى السوريين، لأنه وقتئذ، وإن فعل، سيحرج الجميع ويقطع رزق ومشاريع كثيرين، وخاصة بعد قراراته الجريئة التي أكدت عدم عمله بالثورة بل عمله لأجلها، أو يبعد نفسه عن أي تهمة سيسجلها التاريخ.. وإن برر بحسن نية رغم أنه لا نوايا حسنة في علم السياسة ولا في قواميس الحروب.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية