هذا الشعب، كتير عليه طحين مدوّد! .. ميخائيل سعد

بعد أن "انتصرنا" في حرب تشرين التحريرية عام 1973، واستقر الكرسي تحت السيد "الرئيس" في القصر الجمهوري، بناء على النصوص غير المعلنة في اتفاقية فصل القوات، التي بموجبها يحمي حدود "إسرائيل" مقابل دعم نظامه، والتسريح العلني لمن تبقى من ضباط الجيش، المشكوك في ولائهم ولو خمسة بالمئة، بتهمة التخاذل، وصعود نجم "أبطال الجمهورية التشرينيين" الذين، رغم ارتكابهم نفس أخطاء من تم تسريحهم، إلا أن قربهم من الأسد "طائفيا" كان السبب الأبرز لنيلهم ذلك الوسام الحربي المستحدث، وتسليمهم قيادات الجيش.
فقد روى لي أحد قادة الألوية، الذي تم تسريحه بعد المعركة، كيف أنه شاهد بنفسه قائد فرقتهم اللواء "عمر الأبرش" مقتولا في عربته الحربية قبل بدء المعركة.
وبعد انتهاء المعركة، كيف تم نشر خبر موته مقرونا بعمالته لـ"إسرائيل" للنيل من سمعته وهو ميت.
كل ذلك للتغطية على اعتراض الأبرش على الخطة العسكرية التي وضعها حافظ الأسد.
بعد ذلك اطمأن إلى أن "الكرت" الذي منحته إياه "إسرائيل" والولايات المتحدة سيجعله الحاكم الوحيد لسوريا على مدى سنوات طويلة، إذا استطاع "تنظيف" البيت السوري الداخلي من "السوريين العملاء" الذين "لا يعجبهم العجب ولا الصوم برجب"، على حد قول المثل الشعبي.
بعد الحرب، مستثمرا شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، تفرغ حافظ الأسد لتأسيس "الدولة الباطنة التي هي المركب السياسي الأمني الذي يحكم البلد فعلياً وبيده سلطة القرار"، على حد تعبير المفكر ياسين الحاج صالح، في مقاله المهم "السلطان الحديث: المنابع السياسية والاجتماعية للطائفية في سوريا"، وبموازاة ذلك وفي الوقت نفسه بدأ خطته لتفتيت المجتمع عبر استخدام كل عناصر الإفساد الممكنة، ومنها الرشوة لموظفي القطاع العام، ولدوائر الدولة ومؤسسات حزب البعث والنقابات، ولم تسلم مؤسسة صغيرة كانت أم كبيرة من هذا الداء، الذي أصبح سياسة عليا لحافظ الأسد، وقاعدة العامة للعمل والتعامل مع المواطنين، المهم أن يبتعد الجميع عن الأسياسة.
في سياق الحديث عن أن الفساد كان ممنهجا، والذي لم يعد يحتاج إلى قرائن للبرهنة عليه بعد كل هذا القتل، وإنما من باب الاستفاضة في الشروح، ومن باب التوثيق أضيف القصة التالية: طلب مني أحد الرفاق عام 1974 مرافقته إلى حماه لزيارة أحد أعضاء فرع حماه لحزب البعث، والذي كان محسوبا على جماعة 23 شباط، لمحاولة إقناعه أن يكون مزدوج الولاء للتنظيمين البعثيين. استقبلنا الرجل أحسن استقبال، وكانت تربطه معرفة قديمة بصديقي الذي يكبرني عمرا، منذ أيام البعث الأولى في السلطة، يعني منذ عام 1963، وبعد أن طلب لنا غداء فاخرا، تناولناه في مكتبه، لمح له صديقي تلميحا بسبب زيارتنا له، فاعتدل في جلسته وراء مكتبه، وقد اتخذ هيئة جدية كما يمليه عليه موقعه كعضو في قيادة الفرع.
وقال: اسمعا جيدا، لقد قررت أن أكون ابن مرحلة حافظ الأسد بكل جدارة، بنفوذها ومالها ونسائها وسياراتها، لن أوفر شيئا، وما سمعته منكما سأفترض أنني لم أسمعه، وسيبقى مكتبي مفتوحا لكما دائما، تستطيعان الدخول إليه وطلب أي مساعدة أو خدمة ممكنة، شكرا لكما.
في العام الذي تلا القصة السابقة، أي عام 1975، كان أحد شباب حارتنا الحمصية يعمل كمهندس زراعي في مطاحن حمص.
كان ميشيل من ألطف الشباب وأكثرهم تهذيبا، لا يغلط بحق أحد، رغم أن لعبة "التركس" كان تتطلب الغضب أحيانا، إلا أنني لا أذكر أني رأيته، ولو مرة واحدة غاضبا أو منفعلا.
كان أشقر الشعر نحيل القامة كأحد أبطال الأفلام الغربية، كان من المتفوقين دراسيا ويقول بعمله بشكل ممتاز. أحد الأيام من ذلك العام استلمت المطاحن الحمصية صفقة من الطحين المستورد، وكان على ميشيل التأكد من مطابقة الطحين للمواصفات الواردة في الأوراق، وعند فتح أول الأكياس اكتشف الرجل أن "الدود" يسرح ويمرح فيه.
جرب عدة أكياس فكانت كلها فاسدة، ووجد فيها الدود أمر بوضع صفقة الطحين الجديد في مكان منعزل، وقام بكتابة تقريره عنه إلى مديره.
بعد يومين من كتابة التقرير وصل هاتف لمدير المطاحن، من معاون الوزير، يطلب فيه إرسال المهندس ميشيل على وجه السرعة إلى الوزارة لمقابلته. في يوم وصوله إلى الوزارة استقبله معاون الوزير، الذي أشاد بعمله وإخلاصه للثورة ولسيادة الرئيس، وأن عليه أن يقوم بخلط الطحين "المدود" مع آخر وتوزيعه على الأفران فورا، ويجب عدم إشغال القيادة الحكيمة، التي تهتم بقضايا استراتيجية، بهموم صغيرة كوجود بعض الدود في طحين، سيذهب إلى الأفران في كل الأحوال، وستقوم النار بتطهيره من الميكروبات في حال وجودها.
قال ميشيل: ولكن ماذا سنقول للشعب عندما يعرف؟ رد المعاون قائلا: هذا الشعب، كتير عليه طحين مدوّد.
ثم آخذ بعد ذلك الكلام، من درج مكتبه، مغلفا مغلق ووضعه على المكتب قائلا: هذه هدية صغيرة لك من السيد الوزير، تقديرا لإخلاصك في عملك وتفهمك للظروف الخطيرة التي يمر بها الوطن، ويجب أن لا نزعج سيادة الوزير مرة أخرى بتقارير يمكن الاستغناء عن كتابتها، وتوفير ثمن ورقها وحبرها للمعركة الكبرى مع العدو الإسرائيلي.
وجد ميشيل في المغلف المغلق 50 ألف ليرة سورية، كانت كافية لشراء بيت جميل في حمص القديمة، ولكن ما لم يحسبه، عندما اشترى البيت، أنه لم يعد قادرا على النوم، وفقد شهيته على الطعام وهجر سرير الزوجية رغم محاولات زوجته المحبة استدراجه، ولم يعد يأتي إلى حلقة "التركس" الأسبوعية، وإذا حضر فلكي لا يلعب.
ومرت الشهور ووضع الرجل يزداد سوءا، وقد قال لأصدقاء مقربين إن ضميره يوبخه في كل ثانية، على قصة الرشوة، وإغماض العين عن الطحين الفاسد، الذي كانت تستورده الدولة وترسله للمطاحن بين فترة وأخرى، وهو غير قادر على الرفض، فعنقه أصبحت بيدهم بعد قبوله رشوة معاون الوزير. مع نهاية عام 1975 كان ميشيل قد باع بيته وسافر مع زوجته وابنته إلى السويد لعله يجد الراحة هناك، ولكن بعد ثلاث سنوات وصل خبر إلى حمص يقول إن الرجل قد التهمه السرطان ومات هناك.
كانت هذه سياسة نظام الأسدين طوال عقود، ومن لم يكن قادرا على التكيف معها كان عليه الرحيل أو الموت أو السجن.
وكانت ذروة الرفض الشعبي لهذه السياسة هي مذبحة حماه، بعد ذلك هانت المذلة على الشعب، فالروح أثمن، وهذه سنة الحياة. في مثل هذا الشهر، في آذار من عام 2011 خرج السوريون إلى الشوارع، نافضين الذل عن أكتافهم وحاملين أرواحهم على أكفهم ومنادين: "الموت ولا المذلة".
ولكن للأسف ها هي أربع سنوات قد مرت ولا يزال السوري الذي ثار من أجل الحرية يموت بسلاح العدو والصديق، وبالسياسة الحمقاء للمعارضين والكتائب المقاتلة والمتقاتلة، فهل ستكون السنة الخامسة من عمر ثورة الحرية والكرامة هي خاتمة رحلة عذاب السوريين!؟
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية