انزعج الزَّعيم الصِّيني ماو تسي تونچ عندما سأله الفيلسوف الفرنسي أندريه مالرو: «لماذا عندما ينتصر الثوار يصبحون أعداء للثورة».
لم يخطئ أندريه مالرو في تصوره أبداً، فالتاريخ يشهد شهادة لا تقبل الشكل أن كل الثَّورات التي انتصرت صارت أكبر أعداء الثَّورة عندما استملت السُّلطة. مسألة غريبة من الناحية المنطقية والواقعية. الثائر يظل ثائراً ونصيراً للثورات حَتَّىٰ يصل إلىٰ السُّلطة بثورته ذاتها أو حَتَّىٰ بطريقة أُخْرَىٰ فإنه ينقلب بقدرة قادر إلىٰ عدوٍّ للثورة في البلد الذي هو فيه صاحب سلطة، ولۤكنَّهُ غالباً يظل يبعبع بمناصرة ثوارت الشعوب الأُخْرَىٰ. من حق كل الشعوب أن تثور إلا الشَّعب الذي يحكمه فإنه ليس من حقه أن يثور!!!
ماو تسي تونچ الذي قاد ثورة وانتصرت ثورته وقاد وطنه قطع الطريق علىٰ أي ثورة يمكن أن تكون في الصين وحارب كل فكر ثوريٍّ في الصين...
ليس ماو وحيداً ولا متفرداً في ذۤلكَ، كل الثَّورات كان هٰذا طريقها وسلوكها. ثورة المظلومية العباسية علىٰ الأمويين لم تكتف بالانتصار بل مسحت عن الوجود مسحاً تامًّا كل من ينتمي إلىٰ العائلة الأموية وحَتَّىٰ كل من يناصرها، وليس ذۤلكَ فحسب بل نبشت قبور بني أمية ونثرتها في الرياح.
ومنذ ذۤلكَ التَّاريخ وكل الثَّورات تسير علىٰ هٰذا النَّهج ذاته من دون نقص تفصيلةٍ واحدةٍ بمعنى من المعاني. الثَّورات الأوروبية، الثَّورات في أمريكا، الثَّورات في إفريقيا، الثَّورات في آسيا... في كل بقاع الأرض؛ ما قامت ثورة وانتصرت إلا كان علىٰ رأس جدول أعمالها الاعتراف لذلاتها بأنها خاتمة الثَّورات في بلدها، وأنَّها أوصلت الشَّعب إلىٰ مبتغاه، علىٰ الرَّغْمِ من أنَّ كلَّ الثَّورات تقريباً بدأت بنهش شعوبها والتضييق عليها والاستبداد بها بأكثر مما كان قبل الثَّورة. بالكاد تجد ثورة لم تأكل الشَّعب الذي ثار والذي ثارت من أجله بطريقة أشنع وأبشع مما كانت عليه قبل الثَّورة.
الاستثناء موجود، موجود في حالات أشخاص لا أكثر، أما بنية الثَّورة التي تصل إلىٰ السُّلطة فهي ذاتها؛ تحتكر السُّلطة وتقف سدًّا منيعاً أمام أي ثورة يمكن أن يقوم بها الشَّعب من جديد.
كيف يحدث ذۤلكَ ولماذا؟
يبدو أنَّهُ سحر السُّلطة وإغواءها. لا تسألوا عن الذرائع التي يتخذوها الثوار أو الثَّوريون الذين يصلون إلىٰ السُّلطة كي يحاربوا من ثور عليهم، ومن يفكر في الثَّورة عليهم. الذرائع أكثر من أن تعدَّ أو تحصى. ولۤكنَّهَا كلها تدور حول خدعة الشرعيَّة؛ شرعيَّة الثَّورة، شرعيَّة تمثيل الشَّعب.
عشرات السنوات تمضي علىٰ انتصار الثَّورة واستلامها السُّلطة وتظل السُّلطة تحكم باسم الثَّورة والشرعيَّة الثَّوريَّة. أربعين سنة كاملة ومجلس قيادة الثَّورة يحكم العراق باسم الشرعيَّة الثَّوريَّة حَتَّىٰ أزالها الاحتلال الأمريكي. وفي إيران منذ نحو أربعين سنة ومجلس قيادة والحرس الثَّوري يحكم إيران باسم الثَّورة والشرعيَّة الثَّوريَّة. في القذافي واللجان الثَّوريَّة أربعين سنة وهي تحكم ليبيا باسم الشرعيَّة الثَّوريَّة...
أي شرعيَّة ثورية هٰذه التي تكون إلىٰ الأبد، لا تزول إلا بزلزال؟
الشرعيَّة الثَّوريَّة أشهر سنة سنتين تنتقل بها البلاد من فوضى الثَّورة وتبعاتها إلىٰ الدولة وبعدها لا تعود هناك ثورة ولا شرعيَّة ثورية. ومحض البدء بتكريس سلطة شرعيَّة ثورية يعني أنَّها الثَّورة ضاعت وركبها من ركبها، وسرقها من سرقها.
الثَّورات التي يقودها أشخاص أو أحزاب هٰذا طريقها بكل تأكيد. الثَّورات التي تكون شعبية شاملة تكون غالباً أمام احتمالين:
إما أن تسرق وهي تنتصر؛ بعد النصر أو وهي علىٰ وشك الانتصار، ويكون مصيرها مصير الثَّورات التي يقودها اشخاص أو أحزاب.
أو أن تلملم أطرافها وتفرض إيقاعاً يجول دون سرقة الثَّورة وتبني دولة، لن تنجح علىٰ الفور، ولا بوقت سريع ولۤكنَّهَا تستطيع رويداً رويداً أن تبني الدولة إذا بقيت النخب الفكرية والسياسية مخلصة للثورة وأهدافها، كما حدث في الثَّورات الأوربية الغربي التي سلمت زمام أمورها للنخب الفكرية التي كانت علىٰ قدر المسؤولية والأمانة وأوصلت أوروبا إلىٰ بسنوات قليلة إلىٰ قيادة العالم والسيطرة علىٰ العالم ردحاً من الزمن. ويعني أكثر ما يعنيني في سياقنا هو بناء دولة القانون والديمقراطية جزء من دولة القانون وليست صورته ولا كله.
بهٰذا المعنى فإنَّ الثَّورة لا تقطع رأس القط من ليلة العرس ستضيع بكل تأكيد. الثَّورة التي لا تعرف كيف تقطع دابر المتسلقين والوصوليين ستضيع بالتأكيد، الثَّورة التي لا تفرض بنية الدولة ودستورها الصارم قبل فوات الأوان ستضيع بالتأكيد. الثَّورة لا تطيع نخبها الواعية وتسلم نفسها للأدعياء في الفكر والسياسة وغيرها ستضيع بكل تأكيد.
إن سحر السُّلطة وإغواءها يفوق كل إغواء وإغراء. ومن يصل إلىٰ السُّلطة لا يمكن أن ينزحاح عنها إلا بقوة قاهرة. الرئيس في العالم الغربي لا يترشح لأكثر من دورة أو دورتين عفَّة وطهارة ورقيًّا حضاريًّا، القانون الصَّارم وحده هو الذي يحول بَيْنَه وبَيْنَ التشَّبث بالكرسي بأظافره ولسانه وأسنانه. ولولا سلطة تطبيق القانون قاهرة لوجدنا الرئيس يظل يترشح حَتَّىٰ (يسقط) في الانتخابات.
إذا انتصرت الثَّورة ولم تكبل السُّلطة بالدستور الصارم والقوانين الصارمة فإنه ستجعل الثَّورة والوطن في مهب الرياح كما حدث في كثير من الثَّورات.
مشاركة لـ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية