جاء يجرُّ خُطاه في رهج النار، يتطلّع نحو الأفق الأبعد. فرأى سطحاً لمبنى كبيربلون الزعفران، ذي سياج واطيء. وفي زاوية نائية أجلسه أبوه. كان يُريد أن يُريه الملك. وهو عنده نصٌّ مفتوح بلا معنى.
نظر بخشية الى الأضواء الملونة الصاعدة من اسفل المبني والهاوية على هيئة نجوم متشظية: عناقيد تنفرط حبات ٍ حبات.قال مع نفسه: انها الملك. وخللَ ذلك المهرجان الضوئي تدوّي فرقعاتٌ تكاد تصم الآذان. ويقول انها الملك.
بيد أن جلبة عالية دوّت من الأسفل، برفقة هلاهل وزغاريد تشقّ المدى. وتخيّلها أنها الملك, تقدّم نحوه أبوه،حمله وخفّ به نحو السياج الواطيء، وصرخ : انظر اليه داخل السيارة السوداء المكشوفة . صبيّ أكبر منه يُلوّحُ بيده الى الجموع المحيطة بجانبي الشارع. تضجّ حناجرُها بزغاريد الفرح. كان يجلس في المقعد الخلفي برفقة رجل. اذاً، هذا المخلوق هو الملك. لكنْ، لمَ يأتي الناسُ من أطراف المدينة للاحتفاء به؟ مرّ موكبُه وسط الجموع واختفى بعد المنعطف الذي يفضي به الى شارع المجيدية.
ولا يتذكرُ شيئاً بعد ذلك. ربّما نام تُرى لمَ تذكّرتُ الآن هذه المشاهد الماضوية البعيدة؟ بعدئذ، بعد أنْ كبرتُ أجيء أحياناً في العصريات الى مبني دائرة البريد الهرم والعب مع عبد الخالق ابن صاحب المقهى وعدنان وعرب ولدي زميلي أبي في الدائرة . ابتعد عنا عرب وتوجّه نحو دكان صغير عند فوهة الجسر الحجري، يبيعُ علب السجاير والعلك وأوراق اليانصيب والرسائل والأقلام والدفاتر...الخ.
من هنا بدأ مشوارُه حتى غدا تاجراً معروفاً. كنا نتأخر حتى غروب الشمس حيث يُقفلُ البريد بابه وينصرفُ كادر العمل . كان ثمة اعدادٌ من اسلاك التلفونات التي تُدفنُ تحت الأرض ملفوفة حول بكرات ضخمة تزن اكثر من طن. ففي احد الأماسي ظلّ عبد الخالق وحدَه يروم تحريك بكرة عملاقة فتدحرجت فوقه فهشّمته ومزقته الى نصفين ، انا لم أرَجثته الّا أن موظفي البريد شاهدوها ودمعت اعينُهم من البكاء كونه يوزع اقداح الشاي عليهم ويلعب معنا.
... لم يجرؤ أحد منا على التقرّب من تلك البكرات اللعينة. ثمَ وضعتْ احجارٌ كبيرة على جانبي كلّ بكرة حفاظاً على أرواح الناس. اختفى عدنان سنوات وحين التقينا في وقت متأخر أخبرني أنّه يعمل في الصحافة ، لكنه كان يعمل جابياً وحسب، يجمع الاشتراكات الشهرية في احدى الصحف البغدادية. كنتُ امضي نصف نهاري الأول في المدرسة ، وبعد الظهر امضي ساعتين في مُراجعة دروسي وأقضي بقية يومي جائلاً في شوارع مدينتي .ثم التقي أبي ونعود سويّاً الى البيت.بدأتُ ادرس في مدرسة متوسطة في القلعة ، وهي لصق أحد المساجد، على ميسرة بوابة المسجد حمامٌ مفتوح الباب دائماً، واجيء مبكراً لاستحم، افتحُ الدشُّ القويّ ولو كانت الحرارة دون الصفر .
ارتدي ملابسي على عجل من دون منشفة . والجُ المدرسة جالساً اتدفأ داخل الصف حتى ابتداء الحصة الأولى. لم اشعر بالبرد أبداً ولا اصبتُ بالرشح أو الزكام . أمضيتُ في تلك المتوسطة سنتين وتعرّفتُ على معالم القلعة وازقتها، ولطالما احتوتني بيوتها الحجرية المهجورة ذات السراديب المُعتمة التي تُخيفُ اشجع الشجعان . واشيع أيامئذ ٍ أن بعض البيوت المهجورة تنطوي على مخلوقات من الجنة وقد رآها راءون ، لكني على الرغم من ترددي على عدد من السراديب فلم التق كائناً غريباً ما عدا بعض القطط والكلاب السائبة.
وأكادُ الآونة أتذكّرُ ملامح كلّ ازقتها ومساجدها وبعض أناسها وبيوتها وجامع النبي دانيال الشهيرالذي يعج ُّ بالنساء والأطفال طيلة ساعات النهار.ونصفُ شحاذي المدينة تجدُهم هناك.وكذامبنى الكاتدرائية الكبير القريب منه . وأجمل اوقاتي اقضيها جالساً على الدرجات الصاعدة بي الى احشاء القلعة.من هناك ارنو الى الجسر الحجر الوحيد في مدينتنا ، وامسحُ بنظراتي بدايته ونهايته التي تصبُّ في ساحة تتصل بثلاثة شوارع تتوغل في احشاء الصوب الثاني الذي هو مركز المدينة الحكومي.
انني بحكم نشاطي الجسدي والروحي أكاد احفظ كلّ اصقاع مدينتي :أسواقها ،مدارسها ،رجالها ،نساءها ،مقابرها ،بحيرتها المشهورة القريبة من مدرستي الأولى/ الشرقية المختلطة / وانْ انسَ لن أنسى ابنة القس التي شغفت بها، كنتُ انتظرها قبل أن تتوطّد بها علاقتي ،فتمرُّ الى جواري وأنا جالسٌ فوق أحدى الدرجاتـ ثمّ الحقُ بها.غبئذ ٍ باتت صديقتي ارافقها الى السوق فتتبضعُ لحماً وخبزاً وخضاراً وفاكهة ، كنتُ أحمل سلتها الثقيلة حتى باب منزلها الملاصق للكنيسة. وتعددتْ حبيباتي الوهميات بمرورالوقت . فلم أرسُ الّا على واحدة ، ثمّ صارت نسياً منسيّاً.بيدَ أنّ حبّاً آخر غيّر مجرى حياتي. فعشقتُ القراءة حدّ الإدمان .
وبغدادُ العاصمة باتتْ عاصفة غيّرت كثيراً من قناعاتي . صرتُ اعتمدُ على نفسي ، وأتأنّي في قراراتي . والكتبُ صارت أهلي ومعلميّ . غبئذ تغيّرتُ ،سيطرتُ على زمامي، فأخذني الطريقُ حتى رسوتُ على هذا الزمن . من هنا ، من فوق تلّ سنواتي السبعين أطلُّ على ما مضى ، قاطعاً ذا الدرب الطويل وفق أمزجة عمرية وفكرية .
فليس لديّ من تلد سوى سمعتي وما تركته لدى طلبتي ممّنْ درّستهم . حسبي أنني أحببتُ كثيراً ، فلم ادخلْ كرهاً في نفسي.....
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية