لا شكّ أنّ من أهمّ المقاصد الشرعية من مشروعية الإمارة وتولّيها أن تكون حالةً ناظمةً لميراث النبوة في حماية الدين وحفظ الدنيا وتأمين الناس على حرماتهم والحكم بينهم بالحق كما قال تعالى:
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26) سورة (ص).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم (كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيّته....) البخاري.
وهي بهذا لخدمة الناس وحفظ الدماء وسد الثغور وإقامة الشرائع ونصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم، وهي أيضاً أبعد ما تكون عن مزرعةٍ يتملكها شخصٌ يقسمها بين أفراد عائلته ويتوازعون فيها المناصب والمكاسب عشرات السنين بحجة الأمن المزعوم ومخافةَ الفتنة المتوهّمة، وأيّ فتنة أعظم من اغتصاب إرادة الأمة وتعطيل النَّصّ المحكم في الكتاب المبين ({وَأَمْرُهُم شُورَى بَيْنَهُمْ}؟!
وفيم يتشاور الناس إن لم يتشاوروا فيمن يحكمهم ويفصل بينهم ويذود عنهم ويتولى مهمة حراسة دينهم ومصالحهم؟، إذا كان الإسلام أمر بشورى العذراء فيمن يبني عليها فما بالنا بمن يحكم الأمة، وجعل المسلمين على شروطهم في بيع البقل والبصل، فما بالنا برعاية شؤون الحكم والدولة؟، وعلى ذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم مَن طلب الإمارة أن يأخذها بالطلب الموسّد، فما بالك بمن قاتل عليها وأخذها بالعضب المهنّد؟
فعن أبي موسى، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا و رجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولّاك الله عز وجل، و قال الآخر مثل ذلك. فقال رسول الله: "إنا والله لا نولّي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه» أخرجه مسلم.
ولا شّك حين الحديث في هذا الأمر، أن تبرز سناجق الاعتراض وتكدّس أمامك الأسفار المرصوفة والأقوال المصفوفة في جواز بيعة المتغلب بالسيف، وأن هذا ما تكلم به أئمة أعلام ومصابيح تنير الظلام وأن على هذا منهج أهل السنة والجماعة ومن خالفه فقد نزع يداً من طاعة، ولا نريد الإطالة في الرد على هذا وتبيان سياقه وتحليل المقصود من مراده، ونوجز ما نريد قوله بشذرات لعلها تصيب مواطن الحق وموافقة الهدي ومظانَّ الحكمة من استبانة المقاصد وبروز المصالح في مراد الشرع من ولاية أمر الناس وعليه بعون الله نقول
أولاً: الشرع المنزل هو الحاكم والوازن للشرع المؤوّل وقطعيّات الدين هي الحاكمة على مظنونات الفهوم، وإن الشورى في أمر الأمة والتأمّرَ عليها لهو من الشرع المنزل في الكتاب الذي أحكمت آياته فقال تعالى (وأمرهم شورى بينهم).
وأما الشرع المؤوّل فهو أقوال أهل العلم في تجويز ولاية المتغلب فلا يقوى على مناهضة صريح الكتاب وذلك لأسباب:
1- أنّ من أجاز ذلك من العلماء أجازها وهي حالة قائمة وملكاً عاضّاً فيما لو أنكر ذلك حسب تقدير العالم المجيز لأدّى ذلك إلى فوات مهجٍ وسفك دمٍ تؤثر إلى جانبها السلامة والتبرير للاستدامة.
2- أن من أجاز ذلك من أهل العلم حرصاً على وحدة الأمة وشيوع الدعوة والقيام بأمر الجهاد، فغضّ النظر عن الشرعية مقابل انتشار الشريعة وغض النظر عن رضى الأمة مقابل عزتها على عدوها وسريان دينها في الآفاق.
3-أن هذا التجويز لم يكن مطرداً بين العلماء، فكم قامت الثورات من أجل استرداد الرشد، وأيدها كثير من العلماء سواء كانت قيادة هذه الثورات ممن يحظى برضى الأمة كالحسين رضي الله عنه أو كان من يراه الناس فرصة قد حانت كابن الأشعث عندما ثار على الحجاج وأيّده الفقهاء.
وعلاوةً على ذلك، فلو نظرنا في هذه الضرورات التي دفعت أهل العلم إلى تبرير ولاية المتغلب لرأيناها منعدمةً اليوم، فلا قيام بالجهاد ولا أمان للعباد ولا إقامة للشرائع ولا سد للثغور ولا حراسة للقيم ولا تمكينا للحق وأهله بل شرع مبدل واغتصاب للحكم وسفك للدم وكبت للنفوس وحبس للأخيار وتصدر للأشرار وهدر للموارد وتوريث للعرش وتأليهٌ للحاكم، فأي شريعة تلك التي تحرس الجبرَ وأهله وتبرر للبغي وحزبه وتجعل الفقيه يغض النظر عن الظَّلَمَة الفجَرة.
ثانياً:
إنّ لدين الإسلام بُعداً مقاصديّاً غائيّاً وهو تحرير الإنسان من عبودية أخيه الإنسان إلى عبودية الله، ولا يتمّ ذلك إلا في رفع الإصر وفكّ القيد عن مكامن العقل والفكر وإذكاء شعلة الحرية والتأمّل ليخلص الإنسان إلى ذلك الاختيار المحمود الذي يرضى عنه منزل الشريعة ومنع عوامل الإكراه، قال تعالى (لا إكراه في الدين)، فكيف يتأتّى أن تحقق دولة الإسلام هذه الصورة القيميّة الناصعة وهي تسمح باغتصاب دفّة الحكم من قيصرٍ لقيصر وأن يتحول الناس إلى مجموعة من العبيد المصفّقين من أبٍ إلى ابنٍ دونَ مشورة ولا رضى في أهم معاقد أمورهم وأهم مرابض حراسة دينهم وقيمهم.
ثالثاً:
إن من المقرر شرعاً أن الضرورات تقدّر بقدرها، وأن الرخصة القائمة على الضرورة تزول بزوال تلك الضرورة فالمسافر إذا أقام أمسك و الجنُب يترك التيمم عند وجود الماء، وتعود الميتة إلى الحرمة عند وجود المذكاة وإنقاذ المهجة، وكذلك شؤون الحكم، فلقد تغيّر الزمن ولم يعد هناك خوف على راية واحدة فقد أصبحت مئة، ولا على انتشار دعوة فقد غُزينا في عقر الدار، ولم يعد التواصل مع الأقاليم متعذراً، فالكون صار قرية صغيرة وغرفة على (#التلغرام) تجمع أهل الحل والعقد في أصقاع الأرض ولا حاجة لضرب أكباد الإبل في عص تجوبُ النذفاثاتُ فيه عرض الفضاء.
فأي مبرر يبقى لتقرير أن تصادر إرادة الأمة ويحجَّم اختيارها، وإلى متى تجبر على بيع حريتها مقابل أمنها، وإلى متى يجبر الفقهاء على استخراج الفتاوى لشرعَنة تحكُّم السفهاء، وإلى متى تعصر الغانيات في قصور الولاة خمراً ويدفع ثمن ذلك الأتقياء؟.
إن هذا لبدع في الدين ماله من سلف وإنه انحرافُ الفطرة و انطماس البصيرة،
رابعاً:
لو قلنا بجواز القياس في السياسة لما جاز أن نقيس على ما ورد على خلاف القياس، فالعضوض بالأساس خرج عن طور الرشد ونزل عنه درجات، فكان جماعة بدون سُنّة و كان الرشدُ سنّةً من غير جماعة في افتراقٍ يكبر و يصغر حسب قرب الحاكم وبعده عن معين الرشد وتمثّل حال الأئمة المهديين.
فمن بابٍ أولى أن لا نقيس الحكم الجبريَّ على حكم الراشدين، بل ولا على الملك العضوض الذي بقيت جذوة الرشد تضخ ماء الحياة في عروقه الضيقة والذي بقيت فيه مؤسسة القضاء قائمة والعلماء بين ناصح ومصارح يخشى الإمام هيبته ويحذر مقالته ويصغي له مسامعه، وأين الجبريُّ من هذا؟
فلا علماء وإنما سدنة ولا قضاء وإنما البُسطار ولا حرية وإنما وراثة الفراعنة ولا إصغاء لحكيم وإنما اتّباعٌ لكل عُتُلٍّ زنيم.
خلاصة:
إن الله سبحانه وتعالى في شرعه المنزل ومقاصد الدين المحكم قد ترك للأمة أن تحكم نفسها، على أن تكون السيادة للشرع والسلطان للأمة، تقيمه عن طريق الشورى والاختيار بالطريقة التي يضمن فيها تحقق الجدوى وجني الثمرة من هذا التفويض الإلهي للأمة وبوسائل تناسب كلَّ مرحلةٍ تحقق المقاصدَ مع تنوع الأسلوب وتصان القيمة مع تغير الآلة ليصار لدولةٍ سماويةِ المنهاج بشرية الهيكل ضامنةً للأمن حارسةً للقيم راعيةً للحرية ناشرةً للفضيلة ذاتَ شوكة ومنعة تحكم فيها الشرائع وتُعَظَّم الشعائر و يتحرر العقل ويزدهر الفكر وتُكفى العامة وتنضبط الخاصة ويُنصَفُ المظلوم ويقادُ من الظالم، وكلُّ الناس سواء أمام القانون (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
مساهمة لــ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية