في الرابع من الشهر الأول من هٰذا العام كتبت تحت: «السيسي سيتوغل في ليبيا»: «بات من شبه المؤكَّد أنَّ الجيش المصري السِّيسي سيتوغَّل في ليبيا علناً وبوضوح تحت ذرائع سيعلن عنها في وقتها... والغاية هي تحرير ليبيا من الليبيين والمسلمين وإعادتها إلىٰ سكانها الأصليين...
وإذا نجحت التَّجربة فسيكون التَّوغُّل الثاني في غزة لتحريرها من الغزاويين وإعادتها إلىٰ الفلسطينيين أو سكانها الأصليين!!! ترقبوا المرحلة القادمة.
جاء إعدام العشرين مصريًّا علىٰ يد الدولة الإسلامية في ليبيا فرجاً لا نظير له للنظام المصري ليعلن ويفاخر بقصف ليبيا. طيلة ما قبل ذۤلكَ من فترة خروج حفتر إلىٰ الساحة كانت الأنباء والتسريبات والتقارير الاستخباراتية العالمية تقول بأن الطيران المصري هو الظهير الذي يسند حركات حفتر، ويضرب مواقع خصومه. وكانت مصر تنكر ذۤلكَ إنكاراً تامًّا علىٰ الرَّغْمِ من وضوح الحقيقة، شأن الأنظمة العربية الأُخْرَىٰ التي تقرر أن الحليب أسود وعلىٰ الرعاع الاقتناع.
بهٰذه الخطوة صار الإعلام المصري بكل فخر واعتزاز يعيد خطاب 1973م: قامت قواتنا الجوية الباسلة بتنفيذ حملة جوية علىٰ الأهداف المعادية في ليبيا وأصابت وأهدافها بدقة وعادت سلمة.
ركزوا معي علىٰ نفذت أهدافها بدقة وعادت سالمة. تخيلوا أن تذهب وتقصف في ليبيا ولا تعود سالمة. كم ستكون مأساة أمتنا أشنع من الشنيعة. أما أنَّها حققت أهدافها بدقة فهنا مأساة المآسي. لقد شاهد الجميع، جميع المتابعين طبعاً، أن الضحايا كلهم مدنيين، بل أكثرهم أطفال. فهل كان الأطفال هم الهدف؟ أم أن هناك كذب؟ كلُّ الأنظمة في العالم تكذب في مثل هٰذه الحالات. ولٰكنَّ المريب العجيب الغريب الذي يحتاج إلىٰ تفسير هو أنَّ قتل المصريين كان في طرابلس والثَّأر كان في درنة!!!
وفي هٰذا اليوم ذاته صرح مصدر عسكري مصري ببدء العملية البرية المصرية في ليبيا، وأسفرت العلمية حسب المصدر عن "تدمير عدد من السيارات رباعيَّة الدفع لعناصر تنظيم الدولة، وتدمير عدد من مخازن الأسلحة، وقتل وأسر العشرات منهم والقبض عليهم من جانب القوات المصرية والليبية، ورجوع القوات الخاصة بعدد من الأسرى المشتبه ضلوعهم في قتل الـ21 مصرياً لتحويلهم إلىٰ النيابة العسكرية، مشيرًا إلىٰ وجود عدد من الإصابات والوفيات في صفوف القوات الخاصة المصرية".
في هٰذا التصريح الكثير من الغريب المريب، فتنظيم الدولة حسب علمنا في أقصى الغرب فهل وصلت القوات المصرية إلىٰ هناك بهٰذه السرعة؟ وما هٰذه الدقة في الوصول إلىٰ مرتكبي الجريمة ومخازن التنظيم في حين أن مصر عاجزة عن معرفة ما يدور علىٰ أرضها ذاتها؟!
مهما يكن من أمر، هٰذا السلوك يضعنا أمام عشرات أنواع الاستغراب والدهشة وعشرات الأسئلة، فيما لو نظرنا إلىٰ الموضوع علىٰ أنَّ السلوك سلوك أيَّ دولةٍ بالمطلق بوصفه ردَّ فعل علىٰ مثل هٰذه الجريمة. أما إذا كان الموضوع بخصوصيته المصرية فهٰذا يضاعف أنواع الاستغراب والدهشة ويعقدها أكثر، ويزيد أيضاً التساؤلات.
لماذا؟
لأنَّ مصر تحديداً تعرضت قبل أسابيع قليلة لضربة علىٰ يد الدولة الإسلامية ذاتها في سيناء قتل فيها عشرات العسكريين بينهم ضباط كبار، ومع ذۤلكَ لم تستنفر الدول واحد بالمئة من هٰذا الاستنفار، ولم يعلن الحداد ساعة واحدة، وكأن ما كان نزهة؛ العدد أكبر، الجريمة أكبر، في قلب الأرض المصرية، لم تلق أي رد فعل يصل إلىٰ واحد بالمئة من رد الفعل علىٰ مقتل المصريين في ليبيا!!
حسناً، سيعترض بعضهم بأن قتلهم كان في ليبيا. حسناً أيضاً، ولٰكنَّ المصيبة ستكون أكبر؛ كم مصري قتلته إسرائيل أو غير إسرائيل ولم يتحرك السيسي له، أي فقط في ظلِّ كون السيسي رئيساً ووزيراً للدفاع وقائداً لمرحلة الانقلاب الانتقاليَّة؟!
لا أريد الاسترسال في التَّساؤلات وعلامات الاستفهام والاستغراب والدهشة فإنَّها مفجعةٌ في حقيقة الأمر. وقد أثارت بعض وسائل الإعلام أبعاضاً منها. ما لم تثره وسائل الإعلام بعد هو ما توقعته منذ نحو الشَّهرين أن تكون المرحلة التَّالية هي غزو غز واستبدال سكانها بالسكان الأصليين.
صباح اليوم 18/2/2015م نشر موقع دنيا الوطن تصريح المذيع البهلواني توفيق عكاشة الذي جاء فيه حرفيًّا: "حُسم الأمر وسيضرب قطاع غزة من قِبل الجيش المصري والسيسي طلب موافقة دولية". توفيق عكاشة لا يخترع من عنده بكل تأكيد. وإشارته هٰذه بأنَّ السيسي طلب موافقة دولية لها ما لها من أصول. وهي غير مرتبطة بما نشره موقع دنيا الوطن يوم أمس 17/2/2015م عن زيارة طوني بلير إلىٰ غزة تحت عنوان: "رسالة بلير الأخيرة وضربةٌ مصريَّةٌ لغزة». وفيه تأكيد أنَّ "التسخين الاعلامي المصري بضرورة ضرب مواقع حركة حماس في قطاع غزة لم يأت مصادفةً ولا من بنات أفكار المذيع أحمد موسى أو توفيق عكاشة, وإنَّمَا بدأ تحضير الداخل المصري وتسخين لتقبل إمكانيَّة ضرب غزة انتقاماً لأيِّ عمليَّة داعشيَّة قادمة..."، مثل هٰذه الهجمات اعتاد النِّظام المصري علىٰ اتهام حماس بها منذ أول الانقلاب إلىٰ اليوم من دون أي دليل، ولذۤلك لن يحتاج النِّظام المصريُّ إلىٰ جهدٍ كبيرٍ لإيجاد المسوِّغ الذي يسمح له بقصف غزة وإحلال العدالة والديمقراطية وتخليص غزة من الإرهابيين الغزاويين المدسوسين وإعادتها لأهلها غير المدسوسين.
معادلات هٰذا العصر كلها من هٰذه الطبيعة الخرندعية التي ترهق العقل والوجدان، ترهق الإنسان بما هو إنسان. ولذۤلك إذا نظرنا في الإنذار الأخير الذي وجهه غورو العصر طوني بلير لحماس لن نفاجئ من سرياليته. فهو اشترط شرطين، هما ما ظهر، لفك الحصار عن غزة وجعل حماس تعيش علىٰ الكاجو والحلاوة بسمسمية:
الشرط الأول: أن تتعهد حماس بعد التدخل في الشؤون المصرية. علىٰ أساس أنَّ حماس، التي هي أقل من واحد بالخمسة ملايين من مصر، هي التي تخرب مصر، وهي التي تقوم بالمظاهرات وهي التي تقتل المتظاهرين وهي التي تقوم بالتفجيرات والمواجهات وتعطيل النيل سات!!! علىٰ الرَّغْمِ من عدم وجود دليل واحد علىٰ ضلوعها بشيء مما يحدث في مصر ,اغض النظر عن فضائح الفبركات التي حصلت. وهٰذا التعهد يكفي وحده إدانة حماس بلسانها، وإدانة حماس بلسانها يعني وضعها أمام المساءلة شاء من شاء وأبى من أبى، ولا قيمة لطونبي بلير ووعده في القصاص. وهٰذا وحد ما يكفي في نظر إعلام السيسي لإعطاء النظام شرعية لم يحظ بها في الوجود وفي محاربة الإرهاب المحتمل وتبرئة ذاته مما سبق أن حصل.
الشَّرط الثَّاني: الإعلان رسميَّا عن أنَّ حركة حماس ليست ذات امتدادٍ إسلاميٍّ خارجيٍّ. هٰذا الشَّرط مما يسمَّى المضحكات المبكيات، فلا تدري كيف تفهمه ولا كيف تناقشه ولا كيف تهضمه. فسَّره بعضهم بأنَّ المقصود حركة الأخوان المسلمين. إذن كان الأمر كذۤلكَ فلا بأس، وإن علىٰ مضض. ولٰكن ما يدريني أن يخرج بلير عند أيِّ اتصالٍ مع أيِّ دولةٍ بأنَّهُ علاقةٌ إسلاميَّة خارجيَّة؟! ومع ذۤلكَ لا يمكن إلا أن ينفر الدَّم من عروقك توتراً وتشنجاً مما لا يقبله منطق: لماذا علىٰ حركة إسلامية أن لا تكون ذات صلة مع أي امتداد إسلامي في الخارج؟ لماذا يجب أن تفتح علاقاتها مع كل غير المسلمين ويحرم عليها أن تتصل مع مسلمين؟ ولماذا عليها هي ذۤلكَ وليس علىٰ أيٍّ غيرها من أديان العالم؟
أشارت بعض التَّحليلات إلىٰ أنَّ الإنذار الأخير هٰذا لا بُدَّ أن يكون مشفوعاً بتهديدٍ من نوع ما. هٰذا هو المنطق. والمنطق يقول أيضاً إنَّها ليست أول التَّهديدات ولن تكون آخرها مهما كانت استجابة حماس للشروط. لأنَّ هٰذه الشُّروط في صورتها المعلنة أقلٍ بكثيرٍ جدًّا من المطلوب الحقيقي من حماس.
ويبقىٰ السؤال: هل ستقوم مصر باجتياح غزة وتغيير سلطتها علىٰ غرار ما فعله جورج بوش في العراق؟
الحقيقة التي يجب أن تكون واضحةً هي أنَّ المعطيات الدوليَّة والإقليميَّة تقول إنَّ ذۤلكَ ممكنٌ جدًّا، بل تكاد تدفع إلىٰ ذۤلكَ دفعاً، واحتمال قيام السيسي بذۤلكَ كبير جدًّا لأنَّهُ هو شخصيًّا بحاجةٍ إلىٰ مثل هٰذا الاستعراض والضَّمان لنفسه بوصفه ورقة اعتماد عند الأمريكان. ناهيكم عن أنَّ جاهزية السيسي لذۤلك هي غاية ما ترجوه أمريكا للقيام بما تريد بأيدي غيرها، كما تفعل في محاربة الدولة الإسلامية بأيدي المسلمين، ولو في الظَّاهر، لأن إيران رأس حربة والأمريكان والبرطانيين والفرنسيين وغيرهم موجودون علىٰ أرض المعركة.
والسُّؤال الذي سيظهر قبل أن يفعل ذۤلكَ وبعد أن يفعله إذا فعله: والنتيجة؟
النَّتيجة لن تكون جيِّدةً أبداً. من بداهات الحياة أنَّهُ بإمكانك أن تبدأ الحرب متىٰ شئت، ولٰكنَّ ليس بإمكانك أن تنهيها متىٰ شئت. والظروف الجديدة ستفرز معطيات جديدة لم تكن في الحسبان ولن تكون مرضيةً أبداً. تذكروا أنَّ ما حدث في سوريا من تطورات مأساويَّة معقَّدة كان نتيجة دفع الأمور إلىٰ الأمام بتوقُّعات معيَّنة، ولٰكنَّ الذي حدث هو ما كان يهرب منه المجتمع الدولي بدفع الأمور إلىٰ الأمام.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية