كل يوم أجد سببا مختلفا كي أهرب من الحمّام. وذكرني سلوكي هذا بوالدي، فقد كان يفعل الشيء نفسه عندما كان بعمري، وكنت وقتها أظن أن السبب الحقيقي هو عدم وجود حمّام في بيتنا، بعد أن انتهى عصر الحمام في الغرف وبوابير الكاز -طبعا لم يكن أحد يتخيل أن الجنون الأسدي سيعيدنا إلى العصر الحجري- فقد جرت العادة أن نستحم في المطبخ الكبير الذي يشبه البيوت، التي تبقى قائمة الجدران رغم الثقوب الكثيرة التي يحدثها القصف بالبراميل والشظايا المتطايرة.
وإذا كان الحمام في هذه الشروط مقبولا في الصيف، فإنه يعتبر عقوبة في أيام الشتاء الباردة، وخاصة عندما تكون "فتحة طرابس" ناشطة هوائيا من جهة الشرق، عندها تتأثر حمص كلها، وليس فقط البيوت هشة التماسك بفعل التاريخ او "الحداثة البراميلية"، وإنما البيوت كلها.
المهم في نميمة اليوم، إنني استيقظت متأخرا بعد سهرة عرمرمية على "فيسبوك"، كنت أمارس فيها العشق اللفظي مع سيدة جميلة، جعلتها الأيام وحيدة كما تدعي، لأجد نفسي وحيدا في البيت، فقد غادره سكانه كل إلى عمله، وبما أنني تجاوزت الخامسة والستين، وأصبحت متقاعدا ودون عمل محدد، فقد قررت الزوجة والولدان تركي وحيدا دون أن يوقظوني من بقايا أحلام الليل، واستبدلوا أوامرهم الشفوية بلائحة ورقية فيها كل ما يرغبون أن أقوم بتنفيذه، على طريقة الأرستقراطيين القدماء، قبل العصر الأسدي، الذين كانو يتركون أوامرهم إلى الخدم مكتوبة.
مرة أخرى، وعلى عادة العرب في الاستطراد وعدم الذهاب مباشرة الى اهدافهم، يبدو أنني ابتعدت عن الهدف الذي رسمته في عقلي قبل البدء بالكتابة، ألا وهو الحديث عن الحمام.
عندما نهضت من نومي ووجدت البيت خاليا، قررت الاستحمام، فاليوم عندي موعد مع الطبيب، ورغم كونه صديقا، إلا أنه من غير المستحسن الذهاب إلى الموعد لإجراء بعض الفحوص الروتينية دون أن تكون رائحة الجسد مقبولة على الأقل، ولو كان الموعد مع طبيبة لكنت أضفت إلى الحمام بعض العطور الباريسية الغالية الثمن، التي يستخدمها الأولاد في غزواتهم الليلة.
المهم إنني تحركت ببطء نحو حمّامي المونتريالي، الذي هو بعكس حمام أبي، يشكو من يدخله قلة الهواء، وذلك للحفاظ على الحرارة، فكما تعرفون إن مونتريال تتراوح الحرارة فيها بين الشتاء والصيف من ناقص أربعين درجة مئوية شتاء الى زائد اربعين درجة مئوية صيفا، لذلك فإن عزل البيوت وضبط الجدران والحمامات قضية لا تحتمل المزاح ابدا، فرضتها الطبيعة وليس الاخلاق، حتى لو كانت أخلاقا داعشية متشددة لا ترحم، فلا الرشوة لعامل البلدية، كما يحدث في سوريا، مفيدة، وخاصة في المناطق العشوائية، وكل سوريا بفضل الأسد، قد تحولت إلى مناطق عشوائية، فهنا يخسر الموظف عمله، ولا رشوة المتعهد يمكنها أن تلغي العزل..
قررت الاستفادة من خلو البيت من سكانه، وأحسست بالحنين إلى مراهقتي عندما كان جسدي قويا وأحلامي لا يسعها الكون، حيث كنت أتمنى أن أسير عاريا في البيت، ولكن ازدحامه ليل نهار كان يعيقني.
وتذكرت قصة روتها جدتي أم خالتي لي، قالت: أحد أيام الربيع كنت خارج البيت أجمع العشب الطازج من الحقول للبقرة الوحيدة الحلوب في البيت، ولما عدت قبل الوقت المقرر وجدت خالك، المراهق في ذلك الوقت، عاريا ووحيدا في البيت وهو يرقص ناظرا بين فخذيه، كان ينظر علامات رجولته ليتأكد هل ترقص أيضا مثله؟
بدأت أخلع الثياب في غرفة النوم، وتابعت ذلك في الممر المؤدي إلى الحمام، على طريقة راقصي "الستريبتيز"، يعني التعري، لمن لغته الأجنبية ضعيفة مثلي، وعندما دخلت الحمام كانت ثيابي كلها قد سقطت عن جسدي متناثرة ما بين غرفة النوم والممر والحمام، ووجدت نفسي عاريا أمام المرآة، ادهشني منظر جسدي وقد بان على حقيقته، كله هضاب رخوة متهدلة ووديان جفت ينابيعها، لا يوجد أي نوع من التناسق بين أعضائه، لا توجد عضلة واحدة فيه يمكن الاعتماد عليها في الأزمات والشدائد، كل ما أراه هو تلال من الدهون تجمعت في غير أمكنتها الطبيعية، وأكثر من الحاجة الطبيعية لها، عندها عرفت لماذا تهجرني النساء، "فكرشي" لوحده يكفي لمنع أبشع النساء من الاقتراب مني، أو حتى رفض مجرد فكرة الصداقة العابرة معي، وقد تأكدت من ذلك عندما كنت في اسطمبول، فليس عندي ما يغري بذلك، على طريقة أصدقاء سوريا، فبعد اقترابهم من المعارضة اكتشفوا أنها عجوز مثلي تماما، يكسو الترهل عقلها، ويتجلى ذلك في أساليب العمل ما بين مكوناتها أولا، وما بينها وبين الأصدقاء والصديقات، ولا يتوقفون عن التهام بعضهم رغم التخمة التي أصابتهم جميعا.
ولم يمضِ طويل وقت حتى انفض عن هذه المعارضة المهلهلة، كجسدي، كل الأصدقاء، ووجدوا أنفسهم عراة، ولكن ليس في الحمام المونتريالي، وإنما في حمّام الدم السوري، عراة أمام مرآة عجزهم الداعشية أو علمانيتهم المتخشبة، وأنانياتهم عن الالتقاء على همّ سوري واحد بعد أربع سنوات من القتل الأسدي، وانطبق عليهم القول الشعبي إن الخروج من الحمام ليس كالدخول إليه.
قرفت من منظر جسدي، فعدلت عن فكرة الاستحمام، وقررت الاحتفاظ بروائحي النتنة، وليقل طبيبي الدمشقي ما شاء له القول عني، فما أفسده الزمان لا يصلحه العطار.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية