غير بعيد عن واقع الذي نعيشه اليوم، أي بعيداً عن التَّحليل القبليِّ أو البَعديِّ للحدث، نحن أمام واقعٍ محرجٍ تعيشه الأنظمة الغربية، رُبَّما يكون هو الحرج الأخطر الذي يتعرَّض له الغرب عبر تاريخه المعاصر في أقلِّ تقدير.
إنَّهُ واقع الحرب علىٰ الدَّولة الإسلامية، التي اشتهرت باسم داعش نحتاً من دولة الإسلام في العراق والشام قبل إعلان قيام دولة الخلافة.
لن أعود إلىٰ تحليل مسلسل التَّهديدات والتَّحذيرات والمخاوف والحملة الكوميدية لقادة الغرب في الدفِّاع عن الإسلام... كانت مضحكة جدًّا تصريحات القادة الغربيين في الدفاع عن الإسلام والحرص علىٰ عدم تشويهه من قبل الخوارج الداعشيين!!
إذن فيما بدا، وفيما أقنعنا بل حاول إقناعنا قادة الغرب أنَّ حرصهم علىٰ الإسلام النَّقي المتسامح الراقي الأصلي الأصيل هي نقطة انطلاق الغرب في إعلان الحرب علىٰ الدولة الإسلاميَّة وحشد اثنين وستين دولة في تحالف دوليٍّ لمحاربة هٰذا التَّنظيم أو الدَّولة. هم أقنعونا بذۤلكَ، أو ظنوا أنَّهُم يقنعوننا بذۤلكَ. لا ندري إن كنَّا اقتنعنا أم لا. قادة العرب والأنظمة العربيَّة اقتنعوا مئة وعشرين بالمئة. هٰذا صحيح. ولٰكن ما مدى اقتناع الشُّعوب العربيَّة والإسلاميَّة بذۤلكَ؟ أنا شخصيًّا لا أدري، ولا أثق كثيراً في تقديرات وسائل الإعلام، أو مؤسَّسات البحث المختصة بسبر الرأي العام.
علىٰ أيِّ حالٍ، ليست هٰذه هي المشكلة هنا. المشكلة الحقيقيَّة في أمرين آخرين علىٰ الأقل ينجم عنهما ما ينجم.
الأمر الأول وقبل أيِّ شيء: هل الغرب مقتنعٌ بأنَّهُ يدافع عن الإسلام حقًّا؟
إذا كان مقتنعاً بذۤلكَ فنحن أمام المعجزة الأكثر إدهاشاً طيلة قرون وجود الإسلام. وفي الوقت ذاته نحن أمام المفارقة الأكثر إدهاشاً للعقل. لأنَّ كلَّ السلوكات السِّياسية الغربيَّة وتابعها الإعلامي تقول عكس ذۤلكَ تماماً. إذن ثَمَّة تناقضٌ يحتاج إلىٰ تفسير. ولا يمكن تفسيره إلا بأنَّ الغرب يكذب في زعمه أنَّهُ يدافع عن الإسلام.
إذن، لماذا الحرب علىٰ الدَّولة الإسلاميَّة؟
ما الذي دعا الغرب إلىٰ هٰذا التَّجييش والحشد لصراع ضدَّ جماعةٍ أو تنظيم ٍأو دولةٍ إرهابيَّةٍ أو غير إرهابيَّةٍ موجودةٍ علىٰ الأرض العربيَّة وهي في حالة صراع مع المنطقة لا أحد يدري متىٰ ينتهي؟ أي إنَّهَا نظريًّا لا تشكل أيَّ تهديدٍ في الأفق القريب لأيِّ دولةٍ غربيَّةٍ.
سيقول قائل إنَّ الدَّولة الإسلاميَّة تشكِّل تهديداً للغرب ولمصالح الغرب. هٰذا الكلام تكرَّر كثيراً وخاصَّة علىٰ ألسن المسؤولين العرب، ومعهم مسؤولون أمريكيون وصل الأمر بالمندوب الأمريكي إلىٰ القول في مجلس الأمن في أواخر العام الماضي بأنَّ «الدولة الإسلامية لا تهدِّد البشريَّة فقط...». لم يكمل العبارة، وانتظرنا لنعرف ماذا تهدِّد أيضاً: هل تهدد عالم الجن أيضاً مثلاً، أم هل تهدِّد المجموعة الشمسيَّة مثلاً؟
هٰذا التهديد للغرب في نظري وهمٌ أكثر مما هو حقيقة. من الناحية المنطقيَّة والواقعيَّة هٰذا التَّنظيم، وما يسمى الجماعات الإرهابيَّة الإسلاميَّة علىٰ اختلاف مسمياتها وأنواعها، لم توجد في الغرب ولم يكن هدفها الغرب، وإذا عدنا إلىٰ تاريخيتها وجدنا أنَّها وجدت فقط في دول إسلاميَّة بالعام، وبالعام تحارب الاحتلال، وفي استثناءات تحارب الأنظمة الإسلاميَّة. أي إنَّ تهديدها للغرب مشروط بسلوك الغرب. وللتَّاريخ فإنَّ كلَّ العمليات الإرهابيَّة التي قامت بها هٰذه التنظيمات في الغرب أقل بمئة ألف مرَّة من عملياتها في البلدان الإسلاميَّة، وأقل بمليون مرة من أفعال الغرب العدوانية علىٰ العرب والمسلمين. مع افتراض أن كل ما نسب إليها هو من صنعها.
إذن إنَّ تهديد هٰذه التنظيمات مرتهنٌ بأداء دول الغرب وليس تهديداً مطلقاً ولا خاصًّا لها. إذن الغرب هو الذي يجر علىٰ نفسه البلاء وليس البلاء هو الذي ذهب إليه من تلقاء ذاته. والتَّاريخ يؤكِّد هٰذه الحقيقة. لماذا أمريكا وفرنسا وبريطانيا تحديداً تظل تبعبع بهٰذه المخاوف ولا نجد مثلها في معظم الدول الغربية الأُخْرَىٰ، ولا الدول الأوربية الشرقيَّة؟ أليس في هٰذا ما يوحي بخوف الجاني من صحوة الضَّحية؟
هنا تبدو الحقيقة أكثر وضوحاً. إنَّ الغرب برأسه الأمريكي البريطاني الفرنسي هو الذي فرض علىٰ نفسه معركة هي ليست معركته في الراهن الحاضر علىٰ الأقل. هو الذي استعدى العرب والمسلمين.
لماذا فعل ويفعل ذۤلكَ؟
هل هو مضطر؟
أجبنا عن وجه من المخاوف وهو صحيح. ولٰكنَّ ما لم نجب عنه هو الصراع الحضاري، وصراع المصالح. المخاوف الغربية التي لا يتم الإفصاح عنها هي مخاوف صراع المصالح المستقبلي، وهو أمرٌ أدركه الغرب منذ قرون ويعمل بموجبه وعلىٰ أساسه. ولا نعود إلىٰ مؤتمر كامبل بنرمان في مطلع القرن العشرين الذي حدَّد نهائيًّا معالم هٰذا الصِّراع وكيفية احتواء المنطقة العربيَّة وتقسيمها.
محاربة الدَّولة الإسلاميَّة وغيرها من التَّنظيمات المسمَّاة إرهابيَّة، وحَتَّىٰ الدُّول العربيَّة ذاتها إذا اقتضت الضَّرورة كما حدث في العراق، كلها خطىٰ مرسومة ولا بديل عنها للغرب لمنع قيام أي قوة في المنطقة العربية تهدد المصالح الغربية. وسيكون من الفجاجة بمكان أن تعلن حربها علىٰ المنطقة أو جزء منها من دون سبب، السبب كان تهديد الأمن القومي الأمريكي، الإرهاب والتطرف، وغير ذۤلكَ.
إذن لا بديل للغرب عن خوض هٰذه المعركة. وقد بينت في تحليلات غير قليلة المخطط الغربي بل الأمريكي علىٰ نحو خاص للخروج بالفوز من دون خسائر، وإدخال المنطقة في دوامة صراع داخليٍّ لا ينتهي قدر الإمكان، ويبقى الغرب في موقع وموقف المؤجج والحكم والمتفرج وحاصد الجوائز.
ولٰكنَّ الذي لا يغيب عن بال بني آدم عادي أن لكل فعل رد فعل. لا شك في أن الغرب يدرك أنَّهُ ستكون ردة فعل علىٰ هٰذا الاستعداء. ولٰكن ما لا يغيب أيضاً عن الذهن هو البداهة التاريخية، الحكمة البشرية التي تقول: «تستطيع أن تبدأ الحرب متى شئت، ولۤكنَّهَا لا تستطيع أن تنهيها متى شئت». الغرب وضع حلاً لهذه المعادلة هو الحل الترقيعي، انتظار ردة العفل والتعامل معها، حسب ردة الفعل يكون الرد والتصرف.
هٰذا الحل الترقيعي كان جيداً وفعالاً طيلة القرن العشرين، ولٰكنَّ الأحداث اليوم تسير بأسرع مما يتخيله صناع القرار في العالم الغربي. الأحداث منذ بدء الثورة السورية تسير بوتائر متسارعة تفوق بداهة صناع القرار الأمريكي علىٰ الرد المناسب، ولذۤلك هم دائماً يلهثون لحل مشكلة فات أوان حلها، ولا يستطيعون تركها من دون حل، فتكون قد نشأت مشكلات وأحداث جديدة.
الغرب لأول مرة في تاريخ الحديث والمعاصر أمام هٰذا المأزق الذي ما فتأ يحشر العرب فيه منذ مطلع القرن العشرين. قامت سياسة الغرب تجاه العرب منذ مؤتمر كامبل بنرمان علىٰ مبدأ جعل العرب واقفين علىٰ رجل واحدة، ويلهثون وراء الدفاع عن أنفسهم ضد اتهامات لا يفرغون من واحد حَتَّىٰ تكون قد ركبتهم مجموعة جديدة، فيظلون مثل الحمار الذي يلهث وراء الجزرة المعلقة بعصا راكبه. الغرب لأول مرة منذ بداية نهضته يتحول إلىٰ الحمار الذي يلهث وراء الجزرة.
الأمر لا ينتهي هنا.
هٰذا القسم الأول من محاصرة الغرب لذاته بأخطائه. أخطاؤه التي لم يكن منها بُدٌّ. اليوم سلط فيديو نشرته الدولة الإسلامية الضوء علىٰ خطر لم يكن في الحسبان. بدأ تنظيم الدولة الإسلامية يهدد جديًا وعلىٰ نحو واضح باستهداف دول غربية بعينها في قلب هٰذه الدول. هل كان يخطر هٰذا ببال صناع القرار الغربي؟
سيقول قائلٌ بأننا علىٰ مدار عقود ماضية ونحن نسمع تحذيرات غربية من قيام الإرهابيين الإسلاميين باستهداف المصالح الغربية في أوروبا وأمريكا.
هٰذا صحيح. أرجو التدقيق في الكلام من جديد. الإعلام الغربي، صناع القرار في الغرب هم الذين يعلنون ذۤلكَ. باستثناء أسامة بن لادن في تهديد له، وبعض التهديدات التي تأتي ردود أفعال علىٰ سلوكات عربية استفزازية للإسلام والمسلمين، فإن تهديدات الدولة الإسلامية هٰذه علىٰ ألسنة أبناء الغرب ذاته هي الظاهرة الجديدة والجديَّة. كانت الدولة الغربية تهدد نفسها علىٰ لسان الإسلاميين اليوم الإسلاميون هم من يهدد استهداف الغرب بطريقة الدولة الإسلامية التي تثير الهلع.
هنا وقع الغرب بَيْنَ فكي الكماشة، هنا بلع الغرب السكين علىٰ الحدين. لاحظوا ماذا حدث وسيحدث:
الغرب يستفز المسلمين بمعاداة صريحة وازدواجية مفضوحة.
الغرب يحاصر الإسلاميين ويمنعهم من الذهاب إلىٰ سوريا والعراق للجهاد علىٰ أساس تجفيف منابع الجهاديين أو الإرهابيين.
الراغبون في الجهاد صاروا محاصرين مضطرين للبقاء في بلدانهم الغربية.
أعدادهم بالآلاف ورُبَّما الآلاف غير القليلة.
الدولة الإسلامية تدعهم إلىٰ عمليات استشهادية في دولهم.
الغرب حاصر نفسه من الخارج والدَّاخل... صار بَيْنَ فكَّي كمَّاشةٍ واحدةٍ؛ مضطر ولا بديل أمامه من استفزاز المسلمين وشحنهم ضدَّ الغرب. وفي الوقت ذاته هو بَيْنَ خيارين أحلاهما مرٌّ:
إمَّا أن يحاصرهم في أوروبا ويجعلهم قنابل موقوتة لا يعرف أين ولا كيف تنفجر، ولا ماذا ستكون النَّتيجة.
أو أن يسمح للجهاديين بمغادرة أوروبا للجهاد في سوريا والعراق بما يعني تعزيز الدولة الإسلاميَّة وتدعيمها ومدَّها بالجنود علىٰ نحو متواصل بما يعني تأصيل الظاهرة الجهادية ومنحها الشرعية التي ستفتح أفقاً أكبر لنمو هٰذه الظاهرة وزيادتها قوةً.
مشاركة لـ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية