أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

بي بي سي .. ومرابض المعارضة في غوطة دمشق.. 

*محمود الزيبق

بثينة شعبان وفي الكادر مراسل البي بي سي بدمشق - زمان الوصل

"عساف وينو عساف".. غير مرة خلال حضوري المؤتمرات الصحفية في دمشق - قبل انطلاق الثورة - كنت اسمع هذه العبارة ترددها مستشارة الأسد بثينة شعبان بحثا عن مراسل البي بي سي  عساف عبود لا سيما حين يزدحم الصحفيون بأسئلتهم على الأسد ومن يضيفه، ولا يختلف الود كثيرا في مؤتمرات وزير الخارجية وليد المعلم .


 قد يرى البعض في تلك العلاقة الوثيقة أمرا طبيعيا في نظام لا تختلف منظمة صحفية في العالم على حربه للحقيقة وحرية الاعلام ورفضه حركتها إلا بقيوده وشروطه المباشرة المفروضة حتى على تسمية وسائل الإعلام لمراسليها، لكن ما يحظى به الرجل من حظوة وتقديم  في كل مؤتمر كان يترك خلفه همسات ووشوشات حتى عند أقرب المقربين من النظام من المراسلين المحليين ومراسلي وسائل الإعلام الإيرانية واللبنانية.

 
ليس في علاقات الصحفي التي تخدم عمله أي ضير دون شك، لكن يحق للآخرين أن يثيروا حولها الجدل حين يبدو أثرها واضحا في التغطية الصحفية التي يقدمها لشبكة بعراقة بي بي سي.


في الخامس من شباط فبراير الجاري وبالتزامن مع قصف قوات المعارضة مواقع عشوائية في العاصمة دمشق  قدم  عساف عبود تغطية عنوانها الرئيس "جيش الإسلام يقصف أحياء دمشق القديمة ما أسفر عن مقتل مدنيين وجرح عشرات والطيران السوري يرد بقصف مرابض المعارضة المسلحة"، 
أول ما يلفت الانتباه هو كلمة "مرابض" التي تسللت إلى البي بي سي غير مرة من قبل مراسل وحيد هو عساف عبود وقد نقل موقع بي بي سي على الانترنت الكلمة عنه حرفيا كما قالها في الإذاعة 
وبعيدا عن بعد الكلمة عن لغة الصحافة السهلة المأنوسة التي تستخدمها المؤسسات الاعلامية الكبرى فإن ما فيها من معاني الاستهزاء والغمز لا يخفى على أحد إذ تشير جميع قواميس العربية أن الكلمة تستخدم للحديث عن حظائر الابل والاغنام وغيرها من الدواب التي تربض فيها . 
لكن لغة السخرية المنحازة تلك أقل ما في الأمر سوءا إذا ما قورنت بما تلاها من حكم قطعي بأن ما قصفه طيران النظام هو مواقع للمعارضة أو منصات لإطلاق الصواريخ !

لا شك عندي بداية برواية بي بي سي ومشاهدات مراسلها في دمشق وفيها أن صواريخ المعارضة وقذائفها الهزيلة سقطت في مواقع مدنية وأسفرت عن ضحايا مدنيين فهي كما هو معلوم للجميع أكثر عشوائية وعبثية من أن توجه أو تحدد أهدافها، لكن صواريخ الأسد الفراغية التي يمكن توجيهها، كانت وما زالت بالمشاهدات والأدلة موجهة إلى المدنيين تحديدا بما يجعل قطع البي بي سي باستهدافها منصات أو "مرابض" صواريخ محلا للجدل ولا أظنني بمسيس حاجة لأذكر أحدا بالفظائع التي ارتكبها هذا "الجيش السوري" وبأخلاقياته ومدى التزام حربه بالمعايير الإنسانية فقد أتعب ذلك المنظمات الحقوقية والإنسانية وأفرغ أحبارها تسويدا لمجازر وجرائم لا يمكن حصرها وكثير منها مما نقلته بي بي سي العربية نفسها فيما مضى قبل أن تغض عنها طرف التغطية شيئا فشيئا في الآونة الاخيرة  . 
أعود بالذاكرة إلى الغوطة الشرقية وقد حظيت قبل أشهر ببشرف كوني آخر مراسلي الخارج الذين اقتحموا حصارها وخرجوا منها عقب مجزرة الكيماوي التي ارتكبت فيها .
قضيت في الغوطة في رحلتي الصحفية تلك نحو 100 يوم بفعل الحصار الذي أغلق منافذ الخروج ، 100 يوم لا يكاد يخلو يوم منها من قصف عشوائي لطيران النظام على سوق أو بناء أو منزل ، لم يكن استهداف المدنيين على سبيل الخطأ قطعا بل كان وسيلة حرب وانتقام ممنهجة يستخدمها النظام  ضد المعارضة وحاضنتها الشعبية .. لعل أرقام الضحايا وصور الأطفال والنساء أبرز شاهد على الأمر .
ورغم واقع القصف الأليم كانت سمة الغوطة الأبرز  -  وما تزال  - هي الجوع وشظف العيش في ظل الحصار إلى درجة أعيت فريقنا الصحفي حينها في البحث عن رغيف خبز وكثيرا ما كنا نلجأ إلى مقر الأطباء في دوما لنشاركهم " لقمتهم " المجدرة " أو " البرغل "  ..
" الزعتري " .. هكذا كان يحلو للأطباء أن يسموا مقرهم الصغير لشبهه بمخيم الزعتري في الأردن فقرا وضيقا وقلة فيما يمكن أن يقدمه للناس من خدمات رغم أنه كان رحبا واسعا بكرم أولئك الأطباء وسعة صدورهم  .
هناك في الزعتري تعرفت على "د أنمار " طبيب جراحة الأوعية الوحيد في الغوطة حاله حال عدد غيره من الأطباء الذين تجد في كل اختصاص منهم واحدا فقط وعلى عاتقهم علاج الجرحى والمرضى في ظل القصف المستمر على الغوطة التي يقدر عدد سكانها بمئات الآلاف . 
" د أنمار " هو اسمه المستعار إذ يرفض مع من معه من الأطباء أن توظف أسماءهم في أي أمر ذي جدل ويصرون على أن مهمتهم إنسانية بحتة بعيدة عن كل متاعب الخلاف العسكري أو السياسي.

خلال أعوام ثلاثة من العمل وحيدا في الغوطة أجرى الدكتور أنمار ما يقرب من 2000 عملية جراحة للأوعية وهو عدد يبلغ ضعف عدد عمليات جراحة الأوعية التي أجراها الجيش الامريكي طيلة فترة بقائه في فيتنام !! 
هذا الرقم المهول بنحو ست عمليات جراحة أوعية يوميا دون توقف أو استراحة لا يجعل من دكتور أنمار أمهر جراح أوعية في العالم فحسب بل وواحدا من أعظم من تمثلت فيهم الإنسانية في تاريخ سوريا والعالم أجمع ، معظم من عالجهم كانوا مدنيين ، وكثيرا ما كان يغادرنا عن مائدة الطعام ليعالج جرحى قصف عشوائي جديد للنظام . 
ليس مطلوبا من بي بي سي ولا غيرها أن تقف إلى جانب المعارضة أو الأسد دون شك فكلاهما طرف نزاع مسلح عليه ما عليه من الأخطاء والانتهاكات رغم فارق الإمكانات المعروف للجميع  ،لكن شعارا كانت تكرره الشبكة العريقة تقول فيه " مهما كبر الحدث لن يشغلنا عن حقيقته ، أنت " يحملها كما يحمل غيرها من وسائل الإعلام مسؤولية الوقوف إلى جانب الإنسان في ريف دمشق المحاصر لغوطة المحاصرة تماما كما وقفت إلى جانبه في دمشق . 
في الخامس من شباط فبراير  وفي اليوم الذي قدمت فيه بي بي سي هذه التغطية المنحازة قصفت طائرات النظام بالصواريخ الفراغية الحي الذي يضم  " الزعتري "  سكن الأطباء  في دوما وأهم مشافي الغوطة الشرقية .. في الضحايا امرأة حامل مع ثلاثة من أطفالها  وآخرين .. دمر قسم الرنين المغناطيسي في المشفى بالكامل ومعظم العناية المشددة وخطوط الماء والأوكسجين وضواغط الهواء في غرف العمليات و كثير من الأجهزة الطبية نادرة الوجود في ظل حصار الغوطة .. دمرت غرف الاطباء بالكامل أصيب الدكتور انمار بحروق في الوجه وقرنية العين وأجزاء أخرى من جسمه كما أصيب الدكتور أنس طبيب الجراحة الصدرية الوحيد في الغوطة جراء سقوط جزء من ردم السقف عليه ولم يسلم بقية الاطباء من خدوش أو جراح أقل فيما توقف منذ ذلك الوقت أهم مشفى في الغوطة المحاصرة عن العمل . 
أكثر من سبعين قتيلا  و 500 جريح بينهم أطفال ونساء كانت حصيلة قصف الخامس من شباط فبراير  الذي استهدف " مرابض المعارضة " في غوطة دمشق الشرقية . 


*كاتب وإعلامي سوري 
- زمان الوصل
(250)    هل أعجبتك المقالة (176)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي