هل الغرب عاجزٌ عن حسم المعركة مع الدولة الإسلاميَّة أم أنَّهُ لا يريد حسمها سريعاً؟ ولماذا هٰذه التناقضات في التصريحات التي تبدي تردداً غريباً في التعامل مع هٰذه المعركة؟
لا أريد العودة إلىٰ الحديث في هرطقات أنَّها عميلة أو غير عميلة، صنع النظام أم صنع إيران أم صنع أمريكا أم صنع أمريكا والنظام وإيران، أم في أنَّها مخترقة أو غير مخترقة... فهٰذا حديث صار ممجوجاً أكثر مما يحتمل بكثير جدًّا. في الموضوع من التناقضات ما يكفي متوسط التفكير ليصل فيها إلىٰ أقرب ما يكون من الحقيقة إن لم يكن الحقيقة ذاتها.
أيًّا كان الأمر، مشكلتنا الأساسية في الحرب علىٰ الدولة الإسلامية وما تجر إليه من مشكلات مأساوية علىٰ المنطقة. مشكلتنا في بنية الحرب عليها والأهداف المعلقة علىٰ هٰذه الحرب، مهما كانت طبيعة الدولة الإسلامية.
الأنظمة العربية مستعجلة جدًّا علىٰ سحق الدولة الإسلامية والخلاص منها. وفي المقابل فإن الغرب وعلىٰ رأسه أمريكا يلعبون علىٰ الطويل الطويل وتصريحات محبطة للأنظمة العربية إلىٰ أبعد الحدود.
في السَّادس من شباط/ فبراير الحالي قال جون جينكز السَّفير البريطاني السَّابق في السعودية: «تحتاج الحرب علىٰ تنظيم الدولة الإسلامية إلىٰ خمس عشرة سنة».
فوجئت أنَّهُ تفاجئ الكثيرون بمن فيهم سياسيين مرموقين في الأنظمة العربية من هٰذا التصريح وصدموا به كأنَّهُم ألقي عليهم سطل ماء بارد في يوم صقيعيٍّ. وكأنهم لم يكونوا موجودين علىٰ سطح الكرة الأرضية طيلة الأشهر السابقة منذ بدء المعركة علىٰ الدولة الإسلامية التي كثرت فيها تصريحات الأمريكان قادة الحملة والتحالف بأنَّ الحرب علىٰ الدولة الإسلامية طويلة. أولهم أوباما الذي قال تحتاج إلىٰ ثلاث سنوات علىٰ الأقل، وفي مؤتمر جدة في بداية الحرب علىٰ الدَّولة أجمع المؤتمرون علىٰ أنَّها الحرب تحتاج إلىٰ عشر سنوات علىٰ الأقل. ثمَّ وزير الخارجة الأمريكي الذي قال تحتاج إلىٰ أكثر من عشر سنوات، وعندما عرض خطته علىٰ الكونچرس استنتج الكورنچرس أنَّها تحتاج إلىٰ أكثر من ثلاثين سنة.
هل حقًّا تحتاج المعركة مع تنظيم الدولة إلىٰ كلِّ هٰذا الوقت؟
الاتحاد السوڤييتي علىٰ جلالة قدره وعظمته لم يستغرق ثلاثين سنة حَتَّىٰ تم إسقاطه. الاتحاد السوڤييتي نشأ عقب الحرب العالمية الثانية وبدت نهايته في عام 1987م، أي لم يستغرق ثلاثين سنة. فهل تنظيم الدولة الذي هو بتقديرهم نحو عشرين ألف مقاتل لا حول لهم ولا قوة شيء من مقدرات أي دولة تحاربهم من الدول الاثنتين والستين المتحالفة معاً ضدَّهم، وهي التي لم تجتمع علىٰ محاربة الاتحاد السوڤييتي؟!
لا تستقيم التقديرات مع المنطق أبداً.
نحن نفهم طبيعة التنظيمات الجهادية، ونتفهم صعوبة القضاء عليها وصعوبة الانتصار عليها في كثيرٍ من الأحيان، وتحدثنا في ذۤلكَ كثيراً في مواضعه. ولٰكنَّ تقديرات توقعات مدة الحرب ومداها واحتمالاتها تقديرات خرافيَّة بكل ما تحمله الكلكة من معنى، بل أشعر أنَّ فيها سخرية صارخة بعقولنا واستسخاف غير محدود لنا، لا نحن العرب أو المسلمين بل نحن البشر. الحرب العالمية الولة استغرقت بضع سنوات قليلة تعد علىٰ أصابع اليد الواحدة، ومثلها الحرب العالمية الثَّانية... نصف العالم حارب نصف العالم الآخر ببضع سنوات. الحرب الباردة استغرقت ثلاثين سنة تقريباً، مثل المدة التي يقدرها الأمريكيون للقضاء علىٰ تنظيم الدولة الإسلاميَّة!!!
مع أخذ كل اعتبارات الحرب وطبيعتها تبقى علامات استفهام كبيرة حول هٰذه التوقعات. ولٰكن إذا أزحنا اعتبارات الحرب المهنية وحساباتها وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه أمام الهدف الحقيقي العام وما ينشعب عنه من أهداف جزئيَّة وتفصيليَّة.
الحقيقة التي يجب أن تكون واضحة هي أنَّ الفوضى والعبثية التي تمر بها المنطقة العربية المشرقية خاصَّة وهي الأكثر أهمية بالنسبة لأمريكا والغرب، هي الفرصة الثمنية التي بحثت عنها الولايات المتحدة الأمريكية لإدخال المنطقة فيما سمته يوماً الفوضى الخلاقة، الغرب يريد أن تطول الحرب في المنطقة وعلىٰ المنطقة لكي يشغلنا عشرات السنين لا نفيق بعدها أبداً. الولايات المتحدة والغرب يريدون إغراق منطقتنا بحربٍ طويلةٍ لا تنتهي، وخادمهم الأمين هو الأنظمة العربية التي لا يمكن فهم سلوكها المعادي لمصالحها هي قبل مصالح شعوبها. منذ أكثر من ربع قرن وأن أكتب في هذا الموضوع، ولست الوحيد بالتأكيد.
هنا صار من السهل أن نفهم لماذا لا تريد الولايات المتحدة خاصَّة ولا الغرب عامة الدخول في معركة برية في المنطقة. إنهم لا يريدون ذۤلكَ ليس حرصاً علىٰ أرواح جنودهم كما يزعمون، أبداً، وإن تأسيساً لحرب داخلية داخلية، سنية سنية، عربية عربية... مثل هٰذه الحرب إذااندلعت فإنها لن تنتهي، فيما دخول جيوش أجنبية أمر محسوم كما حسم وجودهم في العراق وأفغانستان، وسيظل التعامل معهم مختلفاً تماماً.
أكثر الذين يتاجرون بك عندما تقع في مصيبة هم أقرب النَّاس إليك، لذلك تريد أمريكا إشغال المنطقة بذاتها بوقودها الداخلي بعيداً عن أي تدخل خارجي، وتعزيز مبدأ نابليون إذا رأيت عدوك يدمر نفسه فلا تقاطعه. كل ما سيفعلون هو ضخ الوقود في محركات الصراع، وتأجيج النار كلما خمدت.
ولذۤلك كانت حملة التصريحات المتراكمة بطول أمد المعركة عقوداً. حملة التصريحات لم تكن عبثية أبداً، كانت مدروسة بهدوء ومطبوخة بهدوء أكثر. إنها تريد تأسيس البنية النفسية لاستمرار القصف والمد والجزر وجر المنطقة رويداً رويداً إلىٰ الاشتعال. بطريقة تضمن الديمومة.
ولٰكن ماذا حدث؟
كما أشرنا بدءاً في حين أن الولايات المتحدة تخطط لمدى بعيد علىٰ نحو ما أبنَّا فإن الأنظمة العربيَّة متحرقة تسرعاً للقضاء علىٰ تنظيم الدولة الإسلامية، ويوماً بعد يوم راح ينكشف ظهر التحالف بتقدم الدولة الإسلامية وعدم تأثرها بالضربات، الأمر الذي أدى إلىٰ ضغوط هائلة من الأنظمة العربية علىٰ الولايات المتحدة التي لم تتغير قناعاتها، وهي تبحث عن أفضل استراتيجيا لتحقيق مخططها وإرضاء الدول العربية مؤقتا.
في هٰذه اثناء جاء إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة بطريقة ألهب مشاعر الناس وأوجدت مسوغات أمام الأنظمة العربية للدخول في المعركة البرية التي لا بديل عنها لحسم المعركة. وهو الأمر الذي تنتظره أمريكا بفارغ الصبر؛ أن تكون الجيوس المسلمة (السنية) في مواجهة الدولة الإسلاميَّة، وتفجير الصراع الديني الداخلي. ولذۤلك تلقفت الاندفاع الأردني وراحت تغذيه، وكذۤلكَ فعلت بريطانية وفرنسا. واستغل الولايات المتحدة الأمر للإفراج عن الاندفاع الصعودي والإماراتي للانخراط في معركة القضاء علىٰ الدولة الإسلامية.
ظلت أمريكا تراهن علىٰ توريط تركيا في هٰذه المعركة، ودأبت منذ بداية المعركة علىٰ ترهيبها وترغبيها، ووعدها ووعيدها لدفعها لقيادة المعركة البرية ولۤكنَّهَا أخفقت في كل المحالات بسبب إدراك تركيا مخاطر الورطة، ومعرفتها بالوعود الأمريكية الكاذبة. ولذۤلك لم يبق إلا العرب وهٰذا أكثر ما تريده الولايات المتحدة. وعلىٰ هٰذا الأساس جاء تصريح الجنرال الأمريكي جون ألن منسق التحالف الدولي للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية يوم الاثنين 9/2/2015م بأنَّ «هجوماً بريَّا وشيكاً واسعاً سيبدأ قريباً في العراق ضدَّ التنظيم بإسناد من قوات التحالف التي تضم 62 دولة( )».
حسناً، في نظرة إلىٰ صورة الموقف هٰذا يعني إمَّا أنَّ التَّصريحات السَّابقة كلها؛ الأمريكيَّة وحَتَّىٰ الغربيَّة، كاذبة وهٰذا ممكن في إطار الحرب النَّفسيَّة والحرب خدعة. أو أنَّ الإدارة لا تعرف ماذا تفعل ولا تعرف كيف تقدِّر الأمور وأنَّها تقود العالم بهٰذه العقليَّة السبهللية الارتجاليَّة الغبيَّة.
أمَّا أن تكون التصريحات كلها كاذبة فهٰذا وهم وقد بيَّنا حقيقتها. ليست كاذبةً أبداً، وكانت تعني تماماً ما تقوله، وأنَّ الحرب علىٰ الدَّولة الإسلاميَّة لا يمكن أن تنتهي في عقود، إذا انتهت في عقود. تحتاج الحرب إلىٰ عقودٍ رغبةً وإكراهاً للمصادفة غير السَّعيدة للجميع.
وعندما تقرِّر اليوم بدء العمليَّة البريَّة خلال شهرٍ أو أكثر ناسفةً كلَّ التَّوقُّعات السَّابقة، والتَّصريحات، فهٰذا يعني أنَّها ثورٌ هائج يرطم بالحيطان علىٰ غير هدى، وكلُّ رطمهٍ تردُّ إلىٰ جهة أُخْرَىٰ. وهٰذا حقيقة أيضاً.
لا أحد ينكر أن الولايات المتحدة إمبراطورة الغرب والعالم، تعرف ماذا تريد، وتسير إلىٰ أهدافها بطريقة أو بأُخْرَىٰ. ولٰكنَّ في الوقت ذاته من يحسب أن كل شيء يسير وفق الإرداة الأمريكية، أو أنَّ الولايات المتحدة لا تخطئ، أو أنَّها لا تقع في حيرة وتردد ولا تعرف ماذا تفعل، فهو واهم.
إن عدم معرفة الولايات المتحدة ماذا تفعل سوريا هو الذي جر المنطقة كلها إلىٰ هٰذه الفوضى والعبثية، ليست العبثية أو الفوضى الخلاقة التي تسعى لها الولايات المتحدة كما يتوهم الكثيرون. لقد وصلت المنطقة إلىٰ فوضى خارج السيطرة تهدد المصالح الأمريكية أكثر مما يتخيل الأمريكيون. وبهٰذا المعنى كتبت وكررت مراراً، يوماً سيترحم الأمريكان علىٰ أسامة بن لادن، هۤكذا يردد الأمريكان ليل نهار منذ أشهر. ولن يتعلموا الدرس، وبعد فترة ستجدون الأمريكان يقولون: سقا الله أيام أبي بكر البغدادي.
من البداهات التي يجب أن تدرك من دون طول تحليل أنك تستطيع أن تبدأ الحرب متى شئت، ولٰكن ليس بإمكانك أن تنهيها متى شئت. هٰذه هي صورة الحرب التي أججتها الولايات المتحدة في المنطقة بعدم معرفتها ماذا تفعل، وسوء تصرفها وتقديرها.
لنعد إلىٰ المعركة البرية. المعركة البرية ستكون في العراق فقط. ماذا يعني ذۤلكَ؟
يحسب بعضهم أنَّها لا تريد إسقاط بشار الأسد، وتسعى للحل السياسي. والأمر كذۤلكَ ولٰكن ليس لهٰذا السبب. أمريكا بحرجها في الإسراع في العملية البرية، وهو أمر أيضاً ما زال مشكوكاً فيه، فإنَّ الحسابات الأمريكية تقوم علىٰ أنَّهُ يجب القضاء علىٰ الدولة الإسلامية في العراق لـامين الاستقرار في العراق الذي هو الباحة الخلفية لإيران، شريكا الاستراتيجي الخفي قديماً، الظاهر حاليًّا, وفي الوقت ذاته يجب أن تبقى الحرب مفتوحة في سوريا لاستنزاف المنطقة إلىٰ أقصى الحدود الممكنة، واستمرار ابتزاز الأنظمة العربية بتوليع المنطقة لا ببقاء بشار الأسد، فالأنظمة العربية حريصة علىٰ عدم انتصار الثورة السورية الأمر الذي لم يقتنع به السوريون إلا مؤخراً.
إذن، إذا دشنت أمريكا الحرب البرية علىٰ الدولة الإسلامية في العراق فإنَّ ذۤلكَ سيكون أدعى أكثر لحرص أمريكا علىٰ عدم إسقاط بشار الأسد.
مشاركة لـ "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية