لو عدنا إلى السينما الهوليودية التي تم إنتاجها بعد الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي سنلاحظ ببساطة شيئين: أولهما شيطنة النازية وتحميلها كل عيوب البشرية، وكأن ما كان عند النازية من عدوانية وتعصب ضد الآخر المختلف لونا وقومية، ليس موجودا في الغرب "الإنساني"، المنفتح على الإنسانية، والمجسد الفعلي لحقوق الإنسان. ثانيهما شيطنة وأبلسة الاتحاد السوفياتي والفكر الشيوعي وعداؤه للأديان، وسحقه للديمقراطيين الروس وغيرهم في بلدان المعسكر الاشتراكي، وتصوير الفكر الشيوعي على أنه الداء الخطير الذي يهدد البشرية، والذي يجب مقاومته والقضاء عليه بأي طريقة، خدمة للإنسانية.
بعد أن تحقق ما أراده الغرب وسعى إليه من السقوط المريع للاتحاد السوفياتي، كان لا بد لهذا الغرب ووسائل إعلامه المختلفة، من خلق عدو جديد، والعمل عليه، فكان هذا العدو هو "الإسلام". وبدأ التنظير له عبر "صراع الحضارات" و"11 أيلول" وأفغانستان وحرب "القاعدة".
وفي زحمة تضخيم هذا العدو وشد انتباه الغربيين، رافقه تراجع الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية التي تقدمها الدولة للناس، وتقليص هوامش الحرية بحجة محاربة "الإرهاب"، وزيادة التوحش الرأسمالي، وعمليات النهب المنفلتة العقال من أي مراقبة أو حدود، وتحولت الشركات العابرة للقارات إلى أخطبوط يمتص دماء البشر في كل مكان من الكرة الأرضية، ناشرة الفقر والأمراض والجهل والتعصب والقتل وكل الموبقات التي كانت السينما الهوليودية تلصقها بالنازية والشيوعية.
هذه الوحشية التي ميزت العولمة، تركت آثارها على المجتمعات الغربية، وخاصة أثناء الأزمات الاقتصادية. وكما كان البحث عن عدو خارجي ضرورة لاستمرار النهب، كان لا بد من خلق أعداء جدد داخل كل مجتمع من مجتمعات الدول الغربية لتحميلهم سبب الأزمة أو الأزمات متعددة الوجوه، التي فرضها تراجع حضور الدولة والخدمات التي كانت تقدمها للشعب، وخاصة أثناء وقبل وبعد الانتخابات في هذه البلدان، حيث يتم إرجاع سبب إخفاق سياسات هذا الحزب أو ذاك، وزيادة المشاكل وخاصة البطالة، إلى تزايد عدد المهاجرين في أغلب الأحيان، أو إلى الهويات المختلفة أو إلى طبيعة الأديان التي تميز جماعة بشرية بعينها أو إلى اللون، وهؤلاء جميعا هم جزء من الشرائح الاجتماعية الفقيرة والمهمشة في المجتمعات الغربية، فيتم النظر إليهم والتعامل معهم من قبل الكتلة الكبرى من السكان على أنهم داء يجب الخلاص منهم، فهم سبب كل الأمراض التي يعاني منها "مجتمعنا"، بل هم سبب تراجع المستوى التعلمي في "مؤسساتنا"، وتراجع المستوى الصحي في "مشافينا"، ووجودهم أدى إلى تراجع منسوب الحرية في "مجتمعاتنا"، بالمختصر تتم شيطنة هذا المختلف القادم إلينا من خارج حدودنا، كي يتم حرف نظر الناس عن معرفة الأسباب الحقيقة لأزماتهم، ومسؤولية الحكومات المحلية والشركات الكبرى عنها، ومن نتائج هذا التهميش للناس، وخاصة قطاع الشباب الفقير هو انتشار فكر العبثية والرغبة بالموت أو الانتحار.
وفي دراسة قام بها فريق من الباحثين لتقصي اسباب ظاهرة الانتحار بين الشباب، أكد أن الذين "تترواح أعمارهم بين 18 و34 من الذكور والإناث، وأصحاب الحظ القليل من التعليم، وغير المتزوجين ومن يعانون اضطرابات نفسية، أكثر عرضة لخطر الانتحار، بينما وجدت بعض الاختلافات التي مثلت مفاجأة، ففي الدول ذات الدخول المرتفعة مثل الولايات المتحدة كانت اضطرابات المزاج كالاكتئاب هي أقوى عوامل الخطر، بينما في الدول ذات الدخول المنخفضة والمتوسطة مثلت اضطرابات التحكم في الأعصاب والإدمان واضطرابات القلق الخطر الأعظم، في حين كانت عوامل الخطر متشابهة فإن معدلات الأفكار والسلوكيات الانتحارية تباينت تباينا واسعا في الدول التي شملتها الدراسة".
في هذا المناخ، الغربي بامتياز، يتم التأسيس للعنف الحقيقي المضمر، والدي من تجلياته قتل الآخر أو قتل النفس، ويكون من ضحاياه الفقراء بشكل عام، وبشكل خاص، المهاجرون المهمشون، والملونون، وأصحاب السوابق الجنائية، والمدفوعون دفعا الى "غيتوات"، حيث يكون المناخ المثالي لنشاط الأفكار الدينية القادمة من خارج الحدود والمنفصلة عن محيطها الطبيعي التي تدعو للتطرف، فتنشأ المنظمات "الإرهابية"، التي لا أحد يعرف حقيقة تشكلها، ومن يديرها ويرسم خططها، ولكن تعلن عن نفسها بشكل عنفي حاد عند الحاجة، مستخدمة الدين كغطاء بهدف شيطنة هذا الدين وأصحابه وخاصة المسلم، الذي يعاني من أزماته الشخصية أحيانا ومن علاقة المجتمع به وعلاقته بالمجتمع، فيأتي من يعزف على وتر هذه الأزمات، ليصبح هذا المهمش جاهزا، دون أن يعرف، للانفجار والتفجير، أو للالتحاق بالجهاديين في سوريا والعراق وليبيا والصومال وغيرها من البلدان لإعلاء كلمة الله والإسلام، وإن استشهد فسيكون مصيره الجنة، حيث يجد ما كان ينقصه في هذه الحياة الفانية، يساعد في ذلك ثقافة منتشرة جدا في الأوساط الغربية على مختلف طبقاتها ألا وهي ثقافة "المغامرة" التي تشجع الشاب أو الشابة على القيام بمغامرات، نسبة الخطورة فيها عالية جدا، وتصل إلى حد الموت..
هذا الكلام ليس تبريرا للعنف أو الإرهاب بأي حال، ولكنه محاولة للقول إن من مصلحة الإعلام عامة، البحث عن مادة مثيرة، تجد صداها بين المتلقين، ومنها ظاهرة المجاهدين الإسلاميين، وخاصة بعد العملية الإرهابية التي استهدفت الأسبوعية الفرنسية الساخرة "شارلي ايبدو" ، التي قيل إنها سخرت من الرسول محمد. فقد تم عبرها، "شيطنة الإسلام"، بإحكام الربط بين الإسلام والمسلمين والإرهاب في جميع بلدان العالم، وليس الغرب فقط، وتأتي عمليات القتل والذبح والصلب وآخرها الحرق، التي مارسها ويمارسها "داعش" وجبهة النصرة وبعض التظيمات الإسلامية الجهادية الأخرى لتكتمل صورة شيطنة "الاسلام" في ذهن المتلقي الغربي، الذي كان من الطبيعي والمفروض أن يكون نصيرا لثورات الرابيع العربي بحكم تكونه الثقافي المدافع عن الحريات السياسية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ليجد نفسه ضدها، ومع الحكام القتلة والمستبدين لشعوب هذه البلدان الثائرة.
أخيرا، فإن المتابع للتغطية التي قام بها الإعلام الغربي، يعرف كيف كان بعض من ذهب منهم إلى سوريا لتغطية أحداث أعظم ثورة في العصر الحديث، يبحث عن الثائر الملتحي "المسلم"، في ظروف الحرب التي لا يجد فيها المقاتل أحيانا الماء كي يشرب، وفي مجتمع إسلامي يستحسن اللحية للرجل، كي يقدمه للمواطن الغربي المتعاطف مع الثورة السورية، على أنه الحاكم السوري القادم "الإرهابي" بعد بشار الأسد "العلماني والأنيق"، ومتجاهلا كل عناصر الثورة الأخرى.
نعم أيها السادة، كان الإعلام الغربي والعربي وبعض ما يسمى بإعلام "الثورة" يريد ببساطة "شيطنة الإسلام" في سوريا وإجهاض الثورة، كي نبقى تحت حكم البوط العسكري، ومن يخالف ذلك عليه أن يموت ابتداء من "أبو فرات" و"حجي مارع" و"الأب باولو"، وانتهاء بالصحفي الياباني الذي كان يقول لشعبه من خلال تغطيته لأخبار الثورة: إن ما يحدث في سوريا هو ثورة عظيمة، فلا تصدقوا ما يقولونه لكم إذا كان عكس ذلك.
رحم الله شهداء الثورة السورية.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية