الله يرحم أيامك يا رفعت الأسد.. خطيب بدلة

يهتف الولد الصغير، حينما يرى النور: واع ويع... كأنما ليقول للآخرين: هأنذا قد أتيتُ!... والمبدعُ، حينما يصلُ إلى قمة الإبداع يهتف بشيء ما، مثلما هتف نيوتن حينما سقطت التفاحةُ بجواره: وجدتُها!.. يعني أنه وجد المعادلة الأساسية لقانون الجاذبية الأرضية.. ومثله فَعَلَ أرخميدس حينما توصل إلى "قانون الإزاحة" وهو ينزل بجسمه في بانيو الحمام ولاحظ أن الماء ينزاح ويطوف بمقدار الجسم فصاح: ها هي!
وأما الشيخ سيد درويش فقد فكر طويلاً في تأليف نشيد وطني لمصر، وحينما اهتدى إلى الكلمة الأولى (بلادي)، واللحن الأول من مقام "العجم" صاح: هوَّ دا النشيد!
وأنا، أخاكم، لا أدعي العبقرية؛ بالطبع، ولا حتى الإبداع، ولكنني اهتديتُ، بالمصادفة ربما، إلى فكرة راقت لي، وهي: أن السجن، في عهد القائد التاريخي حافظ الأسد (ووريثه بشار)، عبارة عن عالم مثير للغاية، لأن الداخل إليه لا يعرف أي شيء يمكن أن يَجري له بعد تخطيه الباب الرئيسي، والناس الذين يعيشون خارج السجن يسمعون طارشاً من أخبار البطش الذي يتعرض له المعتقلون السياسيون، فيكون أمامهم احتمالان: الأول أنهم لا يصدقونه؛ لأنه شديد الغرابة، يعني (متل الكذب!)... والثاني، يصدقونه، ولكنهم لا يريدون أن يحتفظوا به في ذاكرتهم باعتباره مرهقاً للذاكرة.
ما ينطبق على السجون، في الحقيقة، ينطبق على أشياء كثيرة في هذا البلد الصامد المعطاء. فقبل حوالي أربع سنوات من الآن، انفجرت في سورية انتفاضة شعبية، بدأت من درعا، ثم انتشرت على طول البلاد وعرضها، ومنذ اليوم الأول لبدئها أوعز بشار الأسد لمخابراته وقواته المسلحة أن يقمعوها بلا هوادة.. ولم يكن غريباً أن يبدأ القمع بالقنابل المسيلة للدموع، والعصي الكهربائية، بالتزامن مع استخدام الرصاص الحي، بدءاً من البارودة الروسية "الكلاشنكوف"، والرشاشات الخفيفة، ثم بالمدفعية والدبابات، ثم بالطائرات، ولأول مرة، في العالم، يُستخدم سلاح البراميل ضد المدنيين، وكذلك الحال بالنسبة للصواريخ البالستية "السكود" وحتى الكيماوي.. ولكن الغريب، المثير، المضحك، أن بشار الأسد، كلما سئل عن ارتكابات نظامه بحق السوريين يندهش، ويستغرب، ويتساءل:
- هل يعقل أن يوجد في العالم رئيس يقتل شعبه؟! مستحيل يا زلمي.
ويزيد في القصيد بيتاً إذ يوضح لمحدثه وهو يشير بيديه مثل لاعبي الكشاتبين قائلاً:
- إن وُجِدَ مثلَ هذا الرئيس فلا شك أنه مجنون! (يقول مجنون لأن سيادته لا يستسيغ كلمة مجرم)!
إن هذا التصريح الأسدي يقودنا إلى فكرة أروع من سابقاتها وأكثر توهجاً، وهي أن مشكلة الاستغراب مما يجري على الأرض السورية من أحداث هو شأن وراثي ينحصر في عائلة المرحوم علي الأسد. فالسيد الدكتور رفعت الأسد كان قد سجل سابقة لم تُسَجَّلْ قبله في التاريخ تتلخص في إقدامه على قصف سجن تدمر بالطائرات الحربية، إضافة إلى توليه عملية إزالة عدة حارات من مدينة حماه عن وجه الأرض، بساكنيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، ولكنه، حينما سئل عن ذلك، ارتسمت على شفتيه الابتسامة التي زعم نزار قباني إنها تترافق مع براءة الأطفال في العينين، وقال:
- حماه؟ أين تقع حماه؟ أنا لا أعرف حماه.. (وتحصيلاً لحاصل فهو لا يعرف سجن تدمر أيضاً)!
وكان سجن تدمر، الذي قصفه الرفيق الدكتور رفعت بالطائرات، بحسب ما أصبح معروفاً لدى السوريين وغيرهم من المعتقلين، هو الجحيم الأرضي الذي لم يوجد مثله، في ماضي الزمان، على وجه الأرض، وربما لن يوجد مثله في قابل الأيام، حتى إن أحد الأصدقاء أقْسَمَ، أمامي، بأعز ما عنده، على أنه، وبضعة شبان من رفاقه، في الأيام الأولى لنقلهم إلى سجن عدرا، تملكهم شعور بأن فترة سجنهم قد انتهت، فسجن عدرا، بالمقارنة مع سجن تدمر، يمكن أن يُشعر السجين بأنه في رحلة ترفيهية، على طريقة المسلسلات السخيفة التي يتزوج فيها البطلُ من البطلة، بعد قصة حب رومانسية، ثم يخرجان في "شهر العسل" ويركبان في التلفريك يا سيدي!
أتخيل، أخيراً، أنه سيأتي يوم، ويُسأل بشار الأسد عن سبب تسليمه الوطن السوري للدولة الفارسية الطامعة بالتوسع على حساب المنطقة العربية، فيقول على طريقة عمه الدكتور رفعت:
- إيران؟ ما بها إيران؟ ومنذا الذي جاء بسيرتها الآن؟
ويضيف: لا يوجد رئيس عاقل يتخلى عن سيادة وطنه، ويسمح لأي كان، إيران أو غير إيران، بالسيطرة على قراره الوطني، فإن وجد مثل هذا الرئيس فهو أهبل، "صفيرة"!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية