أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"الإرهاب والكباب".. ميخائيل سعد

في عام ٩٨ كنت أقوم بتعليم اللغة العربية للناطقين بالفرنسية في مدينة "مونتريال"الكندية. 

لاحظت في بداية إحدى الدورات، التي تستمر عادة ثلاثة أشهر، وجود إحدى الطالبات التي تعاني صعوبة في لفظ بعض الحروف العربية أكثر من زملائها، وخاصة الحروف الحلقية، فقررت من باب الفضول اكتشاف الأسباب التي تكمن وراء هذه الصعوبة. 

في الأيام التالية كنت أستغل أي فرصة للتقرب من الفتاة وفتح جديث معها، عرفت منها أن أصل والديها مصري، ولكنهما لم يكونا يتكلمان العربية في المنزل، حتى عندما كانا في مصر، وكان هذا يحدث كثيرا في الأوساط البرجوازية المصرية التي كانت موجودة قبل ثورة عبد الناصر والضباط الأحرار وبعده بسنوات. 

سألتها عن ما إذا كان أهلها يلفظون بعض الكلمات العربية في البيت في طفولتها أو شبابها، فقالت: لا أذكر أبدا أنني سمعتهم يتلفظون بأي حرف عربي، الشيء الوحيد الذي أذكره أنهما أحيانا، وعندما يكونا وحيدين في غرفتهما كانا يسمعان غناء مصريا، عرفت فيما بعد أنه للمطربة الكبيرة أم كلثوم.

مع مرور الأسابيع صارت علاقتنا أفضل، وتحسن مستوى لفظها للحروف العربية، وقبل نهاية المستوى الأول للدورة كانت قد أصبحت من أفضل الطالبات والطلاب نطقا وقراءة وكتابة. 

قالت لي أحد الأيام إن الحاجز بينها وبين اللغة العربية قد سقط فجأة، وأصبحت ذاكرتها أنشط وأكثر قدرة على استرجاع ما كانت تسمعه في البيت من أمها وأبيها من مفردات عربية، ومن أسماء لأكلات مصرية، وأصبحت هي بدورها تسمع الأغاني العربية، صحيح أنها لا تفهمها ولكنها تشعر وكأنها كانت تسمعها طوال عمرها.

وفي العودة إلى أسباب رغبتها في تعلم العربية الآن، وقد تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها، وبعد أن انهت دراستها الجامعية، قالت لي: لست أنا من قرر ذلك، إنه المحيط. كنت أعتقد دائما أنني كيبيكية فرنسية حاضرا وماضيا، فأصل أهلي المصري لم يكن طافيا على سطح حياتي، بل إنني، في الواقع، كنت أجهله، ولم أكن مسلمة كي أضطر للسؤال، ولم يكن في لغتي أو سلوكي ما يدل على ذلك الأصل، صحيح أنني سمراء، ولكن كان هناك الكثيرات بيننا سمراوت، ولم يكن لونهن يلفت الانتباه بشكل خاص، وكذلك اسمي واسم عائلتي، ومع ذلك كنت أسمع مشوراتهم، وأحيانا كلامهم المباشر إنني لست كيبيكية، ولست منهم، فكان لا بد من العودة للأهل لاستيضاح الأمر، وعرفت أن أصلي مصري، وبدأت رحلة البحث عن الأصول. كنت أريد أن أنتمي، فما دام المجتمع الذي ولدت فيه وأعيش ضمن أفراده لا يريد، أو لا يحب أن أنتمي إليه، فلا بد لي من انتماء، لا أستطيع العيش هكذا دون هوية. ذهبت في رحلة إلى مصر؛ زرت الآثار الفرعونية والأحياء الشعبية في القاهرة، وتعرفت على مثقفين مصريين يعرفون الفرنسية مثلي وربما أفضل، وعبرهم اكتشفت أي حضارة عظيمة هي الحضارة التي أصولي ترجع إليها، شعرت بالفخر بأنني مصرية وأنني أستطيع الآن الدفاع عن نفسي بشكل أفضل، قرأت الكثير عن مصر والمصريين، ولكن بقيت أشعر أن شيئا ما ينقصني، وقد عرفت أنه اللغة، كي أتابع اكتشاف هويتي، لذلك أنا هنا الآن.

شرحت لي الأجواء المحمومة التي سادت الجامعات المونتريالية وزيادة الكراهية ضد العرب والمسلمين بعد المجزرة الشنيعة التي ارتكبها أحد الكيبيكين بحق طالبات جامعة مونتريال منذ حوالي عشر سنوات، ولكن تم تسليط الضوء على أصول والده الجزائرية، ومن خلال هذه الأصول تم الربط ما بين الإرهاب والعنف وبين الإسلام والعرب، ورغم الأصول الكيبيكية للأم إلا أن الإعلام بقي مسلطا الضوء على أصل الأب فقط. قالت: لا أريد الدفاع عن الإرهاب، أو تبريره فهو مدان بكل المعايير، ولكن مما لا شك فيه، وهذا ما قد أكده الأطباء فيما بعد، أن الشاب كان عنده مشكلة نفسية، والجريمة لا يعود سببها إلى كون والده مسلما، لكن الإعلام كان يريد الكسب من خلال دغدته الصورة المسبقة الجاهزة في عقل الغربي عن المسلم العربي، وانعكس ذلك علينا جميعا.

وكما في قصة هذه الصبية، كذلك كان الأمر، بشكل من الأشكال، في قضية الإرهابيين الفرنسيين المسلمين الذي ارتكبوا مجزرة الصحافة في باريس منذ أسبوعين تقريبا، فقد تم التعامل معهم على أساس أنهم إرهابيون مسلمون، وكأنهم قادمون توا من بلدانهم الأصلية، وليسوا فرنسيين، ولدوا وعاشوا في فرنسا، ولا وطن آخر عندهم غير هذا الوطن، كما الصبية الكيبيكية التي لا وطن لها غير كندا، وقد دفعت دفعا للبحث عن هوية أخرى. وأن حل مشكلة "الإرهاب" لن تكون بالقضاء على هذه الخلية أو تلك، وإنما بالبحث عن الأسباب العميعة التي همشت هؤلاء الشباب والصبايا ومنعتهم من الإحساس بالانتماء، البحث عن فقدان العدالة، عن اللامساواة، عن التمييز بناء على اللون أو العرق أو الجنس، طبعا دون أن ننسى التحريض على التعصب القادم من الخارج، من الأصولية الإسلامية العالمية وخطابها المتطرف. إن البحث عن حل للتطرف يستوجب علاج أصول ظاهرة التطرف في المجتمعات الغربية التي يعيش فيها هؤلاء الناس قبل اتهام الإسلام كدين أو السخرية من النبي محمد.

أخيرا، أختم بما قالته زوجتي إثر جريمة "شارلي" الإرهابية:
"قالت لي زوجتي الأرثوذكسية: ماذا لو أن المتشددين الكاثوليك هم من قام بالعملية الإرهابية ضد أسبوعية "شارلي"؟
قلت لها: لكن الأسماء إسلامية إسلامية يا عزيزتي.
قالت: أي شو يعني؟ ممكن تكون الأسماء إسلامية، ولكن العقول كاثوليكية.
وزوجتي، رغم طابع النكتة الذي أرادته في كلامها، كأنها أشارت إلى مسؤولية المجتمعات الغربية، ليس الكاثوليكية بالتأكيد، ولكنها "العلمانية" المغلقة.
وقد يكون من المفيد البحث عن "الإرهاب والكباب"، كما أراد عادل أمام في أحد أفلامه!

(131)    هل أعجبتك المقالة (135)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي