في ليلة شتاء قارسة البرد، وأنا طفل صغير، كنت أنام بجوار جدتي. حكت لي حدودة ست الحسن التي سقطت في البئر، حيث يسكن غول متوحش يأكل لحوم البشر. بالطبع هي قصة لا تناسب أطفالا في سني.
اختبأت ست الحسن تحت لقان العجين. لكن الغول، اكتشف وجودها. إذ كان يتمتع بحاسة شم فائقة. لم يستطع الغول افتراسها لجمالها، فقرر الزواج منها. المهم أن الأمير ابن الملك، تمكن من النزول بحبل، لكي ينقذ ست الحسن من هذا المأزق غير اللطيف.
ثم وقع الأمير وست الحسن في الحب وتزوجا وعاشا في القصر. إلا أن الغول، الذي كانت له دراية بالسحر
والعمولات، قام بالتخفي في صورة كبش عظيم. وذهب لكي يسترد زوجته وينتقم ممن سلبها منه.
المهم أن ست الحسن، تم إنقاذها للمرة الثانية، وقتل الغول وهو في صورة الكبش. وعاشا الأمير وست الحسن في تبات ونبات، وخلفوا صبيان وبنات.
ثم خلدت جدتي للنوم، وتركتني وحدي مرعوبا في منتصف الليل، من تخيل هذا الكبش الذي ليس كبشا، وإنما غولا يأكل لحوم البشر.
وبينما أنا كامش تحت اللحاف، تتملكني الوساوس والهواجس، إذا بي أرى في ضوء برتقالي خافت يتسرب من فانوس الشارع خلال زجاج النافذة العلوي، صورة مارد يقف في نهاية الغرفة وهو يلبس الطربوش.
صرخت صرخة مدوية تقشعر لها الأبدان، فقامت جدتي مذعورة من نومها لتعرف سبب صرختي. أشعلت مصباح الكيروسين، فأشرت إليها نحو المارد وقلت لها عفريت واقف هناك.
فقالت بسم الله الرحمن الرحيم، اسم الله صاينك وحارسك، فين يا ابني؟ وعندما نظرتُ مليا نحو المارد، وجدت بالطو جدي معلقا على شماعة الحائط وفوقه الطربوش.
كنت في شبابي أزور أحد الأصدقاء. كان يسكن في شقة صغيرة تقع على سطح إحدى العمارات بحي شبرا بالقاهرة. عندما غادرت في وقت متأخر من ليالي الشتاء، كان علي أن أهبط سلم العمارة ذات الخمس طوابق.
وجدت نور السلم لا يعمل. فقررت ترك باب السطوح مفتوحا، حتى يعطيني الوهج القادم من السطح بعض الضوء. تحسست طريقي هابطا السلالم، وأنا أهتدي بحاجز السلم الحديدي (الدرابزون).
ما أن وصلت إلى الدور الثالث، حتى شعرت بصوت أقدام تصعد نحوي. أمعنت النظر، لكن الظلام كان دامسا، والخطوات تقترب صاعدة نحوي. أشعلت عود ثقاب، فكنت وقتها أدخن. لكن الهواء القادم من باب السلم، كان يطفئ أعواد الثقاب كلما أشعلتها.
عندما أشعلت عودين معا، استطعت أن أتبين ملامح القادم نحوى في الظلام. وجدت، ويا لهول ما رأيت، ماردا طويل القامة بدون رأس، قادما نحوي. كلما أمعنت النظر، لم أجد سوى الحقيقة المرعبة. مارد يصعد نحوي.
جسم وأكتاف فقط بدون رأس. لك أن تتخيل عزيزي القارئ مدى الرعب الذي انتابني هذه الليلة. أخذت أبسمل وأحوقل وأقرأ، وأنا أتلعثم آية الكرسي بصوت عال، مع إشعال أعواد الكبريت بطريقة هستيرية.
بعد فترة صمت وتردد، وجدت الشبح يهبط السلم بسرعة، ثم اختفي في الظلام الدامس. وصلت الشارع أتصبب عرقا، شعر رأسي واقف مثل الإبر، لا أصدق النجاة.
في اليوم التالي، أخبرت صديقي بما حدث. وجدته يضحك ضحكات هستيرية. عندما سألته: ماذا يضحكك، ألا تصدقني؟ أجاب: "لأنني كنت عند المكوجي، وأخبرني أن صبيه، هو أيضا قد رأى عفريتا على سلالم العمارة أثناء الليل." عندما سألته، هل رأى هو الآخر شبحا بدون رأس؟ أجاب: "كلا، لقد رأى عفريتا يبرطم بكلمات غريبة، ويشعل أعواد الثقاب".
لقد اتضح أن صبي المكوجي، كان يحمل بالطو لتوصيله إلى أحد سكان العمارة في هذا الوقت المتأخر من الليل. خوفا من أن يصل البالطو إلى الأرض، كان صبي المكوجي يرفعه بيده ويختفي خلفه. بالطبع في الظلام، لم أر الصبي. لكنني رأيت المارد مقطوع الرأس. يبدو أن البالطو ورايا ورايا.
الإيمان بالعفاريت والقوى الخارقة للطبيعة، ليس جديدا علينا. لأن معظم تاريخنا المدون، يشير إلى وجود ظواهر غير مفهومة في الماضى.
كانت تفسر هذه الظواهر، بوجود قوى خارقة للطبيعة. القوى الخارقة للطبيعة، هي الطريقة الوحيدة في ذلك الوقت، التي تمكننا من تفسير هذه الظواهر.
الميكروبات والفيروسات والباكتيريا، لم تكن معروفة حينئذ. إذا مات رجل ذو صحة جيدة فجأة، عقل الإنسان لم يكن في مقدوره تفسير سبب الموت المفاجئ هذا. وقد كان يرجع سبب الموت المفاجئ، إلى وجود السحر أو الحسد أو العين، أو الجان والشياطين والعفاريت.
السرطان والجلطة والذبحة الصدرية وأمراض الدم والأمراض النفسية والميكروبات، لم تكن أمراضا يعرفها جدودنا. هي لم تعرف إلا في تاريخنا الحديث.
كان مجرد اقتراب شخص ما، من أو السير أمام، منزل المتوفي بمرض من هذه الأمراض قبل وفاته بساعات قليلة، كفيل باتهامه بممارسة السحر والشعوذة أو الحسد.
كثير من الأبرياء لاقوا حتفهم حرقا في العصور الوسطى في أوروبا وأميركا، بسبب اتهامهم بالسحر وتعرضهم لظروف وملابسات عديدة مثل هذه.
هذه هي الطريقة التي كان يفكر بها الناس في القرون الوسطى في أوروبا وأميركا. هذه هى طريقتهم في ربط الأحداث بعضها ببعض. كان هذا هو أسلوبهم في إسناد السبب إلى المسبب.
كثير من المتهمين بممارسة السحر، كانوا نساء عجائزا مساكين. سلوكهن وهيأتهن بحكم السن، أو بسبب تعرضهن لأمراض نفسية أو عضوية، تثير الريبة والشك.

نعم، لقد انحدر الفكر الإنساني إلى هذا الدرك الأسفل. نحن اليوم نجد صعوبة كبيرة في فهم أو تبرير هذا السلوك المخزي. كانت أكثر المبيعات من الكتب المتداولة في هذا الوقت، هي الكتب التي ترشد القارئ إلى طرق الوقاية والتخلص من الساحرات.
كانت توضح العلامات التي تظهر على وجوه وجباه السحرة والساحرات. لذلك كانت الناس تراقب بعضها البعض، خصوصا النساء.
يبحث كل منهم عن صيد أو فريسة، يريد التخلص منها واتقاء شرها. أفضل من وصف تأثير هذا الهوس على العقل الأوروبي، هما ويل وأريل دورانت، صاحبا موسوعة تاريخ الحضارة الجزء الثامن:
"في عام 1609، كان وباء الخوف من الساحرات يكتسح جنوب فرنسا. مئات من الناس، كانوا يعتقدون أنهم ملبوسون بالشياطين. بعضهم كانوا يتوهمون أنهم قد سخطوا كلابا، فيقومون بالنباح.
شكلت لجنة من قبل البرلمان لمحاكمة المشتبه فيهم. عرفت طريقة لتحديد المكان الذي تدخل منه الشياطين إلى جسم المتهم أو المتهمة. بأن تعصب عيني المتهمة، وتغرز الإبر في جسدها. أي مكان في جسدها لا تشعر فيه بالألم، يكون هو المكان الذي دخل منه الشيطان.
كان المتهمون ينفون التهمة عن أنفسهم باتهام بعضهم البعض. ثماني متهمات منهن، أقرت المحكمة جريمتهن. هرب خمسة منهن وثلاثة تم إعدامهن حرقا. المشاهدون أقسموا، فيما بعد، أنهم رأوا الشياطين وهي تهرب في صورة ضفادع تقفز من رؤوس المتهمات.
في لورين، تم إعدام 800 ساحر وساحرة حرقا، بسبب تهمة ممارسة السحر خلال مدة 16 سنة. في ستراسبرج، تم إعدام 134 خلال أربعة أيام من شهر أكتوبر/تشرين الأول 1582.
في لورين، تم إعدام 62 خلال 10 سنوات من 1562 إلى 1572. في بيرن، تم حرق 300 متهم في العشر سنوات الأخيرة من القرن السادس عشر. وحرق 240 في العشر سنوات الأولى من القرن السابع عشر.
في ألمانيا، كان الكاثوليك والبروتستانت يتنافسان في إرسال الساحرات إلى المحرقة. الشيء الذي لا يصدقه عقل، أن رئيس أساقفه ترير، كان قد أعدم 120 متهما حرقا عام 1596، بتهمة أنهم قد تسببوا في برودة الجو لمدة طويلة.
حينما حل وباء بالماشية عام 1598 بضاحية شونجو، أرجع هذا الوباء إلى فعل الساحرات. لذلك قررت قنصلية بافاريان في ميونخ تشديد العقوبة. تبعا لذلك تم حرق 63 متهما، وتغريم أهاليهم مصاريف المحاكمة.
في هينبرج بالنمسا، تم إعدام 80 بسبب الشعوذة خلال سنتي، 1617 و1618. في المدة من 1627 إلى 1629، أمر أسقف ورزبرج بإعدم 900 ساحرة حرقا.
في عام 1572، في ساكسون، صدر قرار بحرق الساحرات، حتى وإن لم يقمن بفعل أى شيء ضار (يعنى بدون تهمة). في إلنجن، تم إعدام 1500 ساحرة عام 1590. في إلوانجن، أعدم 167 عام 1612.
في وسترستيتن، أعدم 300 في مدة عامين. كذلك 300 في أسنابروك عام 1588، و300 في نوردلنجن عام 1590. يقدر علماء التاريخ الألمان أن الذين تم إعدامهم بتهمة السحر والشعوذة في ألمانيا وحدها في القرن السابع عشر يبلغ 100 ألف برئ."
ونجد عقولا علمية، مثل بويل صاحب قوانين الغازات المشهور، يطلب سؤال عمال المناجم عن الشياطين الذين يرونها في أعماق المناجم.
كان رجال الدين، الذين يبدون شكوكهم في مقدرة الساحرات على فعل الشر، تقوم الكنيسة باتهامهم بالهرطقة. وتذكرهم بآيات سفر الخروج، التي تطلب الموت للساحرات.
جنون الخوف من الساحرات، استمر حتى عصر جاليليو وكبلر. جنون استمر لمدة 100 عام، بعد كرستوفر كولومبس مكتشف أميركا. إلى أن نصل إلى ما يعرف بعصر التعقل واستخدام المخ. وعقبالنا يا رب.
في الولايات المتحدة، في مدينة سالم بولاية ماساشوست، عشرات من النساء، صغيرات السن المصابات بالهيستيريا، وقفن أمام المحلفين، ليعترفن بأن سبب أمراضهن، يرجع إلى فعل النساء العجائز الساحرات. هن أصلا مريضات بالهستيريا. زادت حالاتهن سوءا، بسبب الرعب وتعرضهن للاتهام والقبض عليهن.
النساء الصغيرات تصرخن ويشرن بأصابعهن إلى العجائز في قفص الإتهام ويهتفن: ساحرات، ساحرات، ساحرات. وفي نهاية المحاكمة، غالبا ما تعترف النساء العجائز بالتهمة الموجهة إليهن، ثم يجهشن في البكاء والنحيب. ويتوسلن ويطلبن العفو والمغفرة. لكن المحلفين تدينهن، ويحكم عليهن بالموت حرقا. آخر ساحرة ماتت في مدينة سالم كانت عام 1693.
الخلط العقلي والأمراض النفسية، كانت تفسر على أنها لبس وسحر وعمولات وحسد وما شابه. لعدة قرون، كان افتراض وجود القوى الشريرة والقوى غير الطبيعية هذه، هو الذي يفسر كل ما يتعلق بمشاكل وانفعالات الإنسان، الخاصة بالحب والكره والرغبة.
ليس هذا فقط، إنما تفسر أيضا سبب الأمراض والاضطرابات العقلية والعصبية، والمجاعات والعواصف والقحط والرياح وكل شيء لا يعرف الإنسان سببه.
حتى اليوم، نجد صدى هذا في بلادنا. في صورة الزار والرقية والشبة والفسوخة والآيات المنجيات. والزواج من الجن، وتسخير الجن، وعمل الأحجبة للوقاية، ورش الماء على الأرض في مواقع التعثر، والبخور والخرزة الزرقاء، والخمسة وخميسة، وتحضير الأرواح، والمندل والفال، والتشاؤم، والنظرة، والعين وخلافه.
تقدم العلوم، كما نعرفه اليوم، كان مكبلا بالاعتقاد في الخرافات والسحر والعفاريت. الخوف والإيمان الأعمى بنصوص كتبنا السماوية بدون فهم، وضعت غشاوة على بصائرنا.
فأصبحنا لا نرى ما حولنا، وجعلتنا نتخيل أشياء غير موجودة. هذا لم يساعدنا كثيرا في فهم قوانين الطبيعة من حولنا. فظلت علوم الطب الحديثة محظورة في أوروبا.
كانت الكنيسة الكاثوليكية تمنع تشريح الجثث لمعرفة كيف يعمل جسم الإنسان. فما هي القوى التي تسبب إيماننا بهذه الخرافات. وكم منها قد تكون بسبب الصدفه أو الفهم الخاطئ للدين وللظواهر الطبيعية.
محمد زكريا توفيق
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية