أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

روّق .. أنت بالشام!

من الغريب جداً، على الرغم من أنه اليوم بمنتهى الواقعية، أن تظهر دمشق كعاصمة سوريّة مقسومة إلى قسمين: الأول مع النظام والثاني مع المعارضة. وهو ما ذهب فيلم "يوم وزر" لعزة الحموي، نحو رصده وتجسيده، لعلّ الكاميرا تنقل إلى المشاهد ما لا يعرفه عن الوضع الراهن، خاصةً وأن مثل تلك اللقطات ليس من السهل الحصول عليها.

بعيداً عن القالب الفني لهذا الفيلم الوثائقي القصير، ثمة قيمة مهنية وإنسانية له، حملها من خطورة وحقيقة المشاهد والصور التي استعرضها بشكلٍ متتالٍ. حيث إن فكرة العمل من بدايته وحتى النهاية، اعتمدت على تلك الكاميرا المخبّأة مرات، والمعلن عنها مراتٍ أخرى. وهنا تكمن المفارقة الواضحة، فآلة التصوير أداة يحاكم حاملها بأسوأ الأحكام، سواء من قبل النظام أو من قبل الطرف الآخر.

صادمة هي الشام تحت سيطرة النظام، تنتشر فيها الأعلام في كل مكان، كما لو كانت بصمة دامغة على استمرارية خضوعها للعهد السابق. إذ ليس من الطبيعي أبداً تلك المشاهد المزينة بألوان وتدرجات العلم النظامي، في أماكن تعبّر عن روح ونبض الشام مثل ساروجة وغيرها من حارات وأحياء الشام القديمة التي هي من المفترض فضاء الشباب السوري، المثقف ربما، أو العاشق ربما.

أيضاً، يصدمك ريف الشام الخارج عن سيطرة النظام.. فالمكان هناك خارج عن المألوف وأحياناً عن التاريخ. ثمة أكثر من علم يظلل خلفيات المشاهد في تلك الشوارع والامكنة. الأول هو علم الثورة الذي تبنّاه الثوار، وبناءً عليه تجد الأطفال يعيشون حياةً بمنتهى العفوية والحرية. بينما يعكس العلم الآخر وهو الأسود، اتجاه البلد نحو طريق لم يكن بالحسبان، وللأسف فإن التفاعل معه كبير من أولئك الذين فقدوا الأمل من الجميع، في حين أنهم لا يزالون على قيد الحياة بانتظار المنقذ.




وبين المكانين، بين الفضاءين، بين العلمين وأكثر، تبحث مخرجة الفيلم بصوتها أو بصوت أحد آخر، عن انتمائها وعن هويتها. وتتبدى المفارقة واضحة وبكل ألم، أنك في الشام لا تستطيع اليوم أبداً أن تمشي خطوة واحدة من دون "هوية" تلك البطاقة التي تخبر الحواجز بمن أنت؟ من أين أنت؟ ما هو انتماؤك بصراحة؟ إلا أنك للأسف قد أضعت الهوية الأصلية بين هذا الحاجز أو ذاك، بين هذا العلم أو ذاك.. هو سؤال عن المصير انطلاقاً من وضعٍ مأساوي يعصف بالكل.

وتقول حموي في الفيلم: "لما ما عاد فيك تتمرد، لما بيصير بلدك سجن كبير، بتمشي بنفس المكان اللي كنت تتمرد فيه، بتمشيك ذاكرتك، لأنه المكان تغيّر مدري الناس انقتلوا، انحبسوا، انقصفوا، نزحوا.. مدينة مقسّمة لمكانين نظامي ومحرر.. وأنت مكانك وين؟ روق.. أنت بالشام".

تخبرك موسيقى الفيلم عن النمط المعيشي السائد وسط هذه الاتجاهات المتصارعة والمتناقضة. لكل عالم موسيقاه الخاصة، المتقاطعة مع بعض الكلمات والعبارات والخطابات التي أصبحت ومع مرور الوقت شعارات مرحلية قائمة لتوحي بالكارثة المهيمنة على سوريا، دون تحديد لمنطقة أو أخرى، فالكارثة، عامة ومشتركة عند الجميع، وإن اختلفت وجوهها وتشكيلاتها وآثارها بين هنا أو هناك.

للوجوه مأساتها المتميزة والقاتلة، هي خائفة تماماً مثل الكاميرا في الحقيبة والتي تحاول أن تلتقط الأحداث وترصد الأجواء بسرعة خاطفة، خشية من أحد قد يلمحها. بينما هي في مكانٍ آخر جريئة تنظر بكل قوة وإصرار، وبالتحدي المطلق، لأنها ببساطة، خرجت عن السيطرة، عن سيطرة النظام.. وأما البديل، فهو حتى اللحظة لا يبشّر بالخير.. الشيء الذي دفع المخرجة للعودة إلى سريرها، إلى قطتها، هناك حيث تلقى هويتها الضائعة.

ميدل ايست اون لاين - رضاب فيصل
(109)    هل أعجبتك المقالة (120)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي