أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مواجهة.. ميخائيل سعد

حدث اللقاء بالمصادفة، لم أكن أبحث عن محاور، فقد أصبحتُ، بعد كل ما جري في سوريا، رجلا لا رغبة عنده في النقاش، وبالأصل أنا لم أكن في يوم من الأيام داعية أو مبشرا بفكرة أو ايديولوجيا، ولم أعتقد في يوم من الأيام أن الحوار بين شخصين أو أشخاص أو مجموعات يمكن أن يؤدي إلى تغيير في قناعات أي من الطرفين أو الأطراف المتحاورة، كل ما يمكن أن ينتج عن الحوار الشخصي هو نوع من التقارب أو الابتعاد؛ إزالة الشوائب التي تعيق مجرى الصداقة أو زيادتها بحيث يفترق الطرفان، أما أن أسعى إلى تغيير أفكار الآخر، فلم تكن هذه من همومي أبدا، لقناعة عندي مفادها: إن الإنسان هو من يغير أفكاره ونفسه عندما يكون صادقا مع مشاعره، ومع ما يتلقاه من معارف.

وكان أن سلّمنا على بعض، دون حماس ولكن دون جفاء، وتعازمنا على فنجان قهوة كندية كبير، ربما دون شعور، بهدف إطالة زمن اللقاء. 

رويت له ما تيسر عن سفري الى اسطمبول، الذي لم يكن لتحقيق أهداف سياسة وإنما للسياحة التاريخية والمتعة الشخصية، وحكيت له بعض الانطباعات والملاحظات عن تركيا والأتراك، وعندها سألته عن أخباره، وكأنه كان ينتظر ذلك فقال:
في محاولة جادة ومدروسة قررت أن أتصالح مع ذاتي المشروخة، الممزقة، كمقدمة لعقد صلح منفرد مع العالم الخارحي. منطلقا من فلسفة معروفة أستقي الكثير من عناصرها من حاضر غير قابل للهضم، وتاريخ طاغ في ديمومته المتجددة، متنكرا بذلك لإرشادات رجال الدين، ثائرا على حكم التاريخ، مرتكزا في محاولتي هذه على بقايا كرامة لا علاقة لها بالقوة أو الاستسلام، وإنما على الطريقة التي قررت فيها مواجهة قدري.

قال لي، شارحا فلسفته الجديدة، أثناء حوار كاد يقطع حبال الوصل بيننا: لقد عشنا وهاجرنا، أو تم تهجيرنا، ونحن نئن "سعادة" من ثقل قناعات وآراء جرى تقطيرها عبر مئات السنين، ولم يسأل أحدنا نفسه: ألا تحتمل قناعاتنا السرمدية عن الحياة الدنيا والآخرة والآخر تفسيرا آخر...؟ لنأخذ على سبيل المثال مسألة الذاكرة؛ يُقال عن الرجل كثير النسيان إنه "ضعيف الذاكرة...نسّاء، بمعنى الخلل الوظيفي، أو الذم، في مجال المدح، أما أنا فأرى في الأمر امتيازا خاصا، بل إنني أفتخر وأتباهى بقدرتي على النسيان. ولا أظنني وحيد عصري وفريد زماني في ذلك، ألا ترى هؤلاء الملايين المذلولين، المهانين في الوطن والمهاجر، كيف يجعلهم فقدان الذاكرة يستسهلون مضغ الإهانات المتكررة...؟
ألا ترى معي كيف أن "صفوة" المجتمع السوري المعارض، ولن أتكلم عن المؤيد، فهو لا يستحق كلمة واحدة، يبلع الإهانة تلو الأخرى من المجتمع الدولي ومن الأشقاء والأصدقاء وحتى الأقرباء، وهو صامت، بينما يفكر بعض الآخرين أن صمته دليل تكبّر؟
ألا ترى كيف أن زوجاتنا وأخواتنا وأمهاتنا يتلقين الإهانة تلو الأخرى من رجالهن، ويتناسينها بحجة الأخلاق الحميدة، والطاعة، رغم كل ما قدمنهن من خدمات للثورة، ورغم تضحياتهن الكبرى ابتداء من السجن، مرورا بالاغتصاب والتهجير وصولا إلى زواج "السترة"، وهن صامتات، لأن أغلبهن يعتقدن أن الرجل هو رأس المرأة، حتى لو كان أحيانا لا يستحق أن يكون رأس كعب كندرتها..؟
أليس الرجال الذين أعدموا امرأة معرة مصرين بحجة "الزنا"، هم أقل وأصغر من كعب كندرة المقتولة؟ وقد يكون أحدهم أو أكثر، هم من مارسوا "الزنا" معها، في حال كانت التهمة صحيحة، ومع ذلك لم يسمحوا لها برؤية أولادها قبل الموت؟
ولولا نعمة النسيان، كيف يمكننا تفسير موقف مثقفينا المهجرين والمهاجرين طوعا ورجال الدين، وأعضاء مئات الجمعيات المؤَسسة في بلدان الغرب للدفاع عن قضايانا العادلة، ولجان حقوق الإنسان، والصالونات الفكرية، صمتهم عن الإهانات التي تلحقهم شخصيا وجماعيا، وبلعها، كل يوم في وسائل الإعلام، دون أن يحرك ذلك فيهم عصبا، مبررين ذلك، كما أستاذهم الأكبر حافظ الأسد الذي عاش ومات وهو يرفض أن "يجره الأعداء" إلى معركة لم يحدد هو "مكانها وزمانها".
وتابع صاحبي: وبعد كل ما سمعت وما رأيت، تقول لي: إن الذاكرة المثقوبة، أو أن فقدان الذاكرة مرض يستوجب العلاج والمتابعة والترصد، على طريقة المرصد السوري لحقوق الإنسان، كي لا يتحول إلى كارثة، وهل هناك بعدُ كارثة أكبر مما نحن فيه؟
قاطعته، محاولا الخروج من هذا الموضوع، الذي أصبح الاستطراد فيه ينذر بما لا تحمد عقباه، قائلا له: ولكن ما هي الرابطة بين قدراتك الاستثنائية على النسيان وبين دفاعك المحموم عن البطالة في الغرب، والمساعدات الاجتماعية ونبذ العمل وتمجيد الكسل؟
قال: إن التاريخ المكتوب، والروايات المحفوظة في القلوب، تحض الإنسان على العمل الدائم، على أساس أنه قيمة إنسانية كبرى، ودرس تاريخي كبير، بغض النظر عن ظروفه وشروطه، فهو يراكم الثروات، ويزيد في قوة الأمم والأفراد، وهو بالإضافة إلى ذلك، وسيلة تعبد وتقرب من الله، يشرح الصدور ويفتح أبواب الجنة. 

ولو أنك تمعنت في هذا التاريخ لاكتشفت أنه تاريخ "الشغل"، أو تاريخ عبودية الإنسان، مُفلسَفا بأشكال متعددة، مختلفة، باختلاف مراحل التشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية التي عبرتها البشرية، ولا أعتقد أنك جاهل لدرجة تضطرني لإعادة شرحها لك. وأنت وحيد عصرك وزمانك في الفهم!.

أنت تعرف أننا كنا نساق إلى العمل، برغبة أو دون رغبة، من "الفجر إلى النجر" كي نكسب ما يسد رمقنا، وكنت أعتقد أن سلوكنا هذا هو قانون الحياة، إلى أن وصلت الى بلاد الهجرة، بلاد الكفر، بعد قيام الثورة، وعرفت أطايب نعيمها، فانزاحت الضلالة التي أعمت أبصارنا خلال قرون، واكتشفت كيف تكالب الحكام ورجال المال ورجال الدين على استغلالنا وتضليلنا، محاولين إقناعنا بالكلمة الطيبة أحيانا، وبالقوة في أغلب الأوقات، بأن الطريق إلى الجنة لا بد أن يمر من سرداب الفقر، الذي لا نهاية له في أغلب الأحيان، إلا الوهم، أما جنة الأغنياء فهي هنا، على الأرض. للأسف إن أمراء الحرب، في الجيش "الحر" وفي الكتائب الإسلامية، قد عرفوا بسرعة أن عليهم العيش في الجنة الأرضية والتمتع بخيراتها، لذلك فهم لم يترددوا في ارتكاب كل الموبقات باسم الوطن واسم الدين للحصول على المال اللازم، وخير دليل وأكثره سطوعا هو سيارات(BMW)م المنتشرة في أرجاء "الخلافة" والإمارات "الإسلامية" جدا.

لكل ما سبق ذكره، أنا قررت العيش على المساعدة الاجتماعية التي تقدمها الدولة لي وللراغبين في الاستمرار في ابتكار "إبداع الكسل الثوري" على "فيسبوك".
كانت القهوة قد انتهت، وانتهى معها لقاؤنا السوري في مونتريال الإمبريالية.

(133)    هل أعجبتك المقالة (135)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي