تؤكد أغلبية المعارضة في معظم تصريحاتها على مقولة أساسية، وهي مقولة “رحيل النظام بكامل مرتكزاته الأمنية”، وقد تحوّل هذا الأمر إلى موضوع خلافي بين أجنحة المعارضة المختلفة، فبعضها “وهو الذي يصف نفسه بالأكثر جذرية” يرى بأن هذا الرحيل شرط أساسي سابق لأي عملية انتقال سياسي للسلطة في سورية، وبعضها الآخر يرى بأن هذا الرحيل يمكن أن يأخذ صفة التدرج، ويقبل بجدول زمني مفتوح وغير محدّد.
تنمُّ هذه المقولة، بشكليها، عن عقل سكوني عاجز عن رؤية الواقع المتحرك حوله، وعاجز عن تطوير آليات التفكير بما ينسجم مع المتغيرات الكبيرة والهائلة التي حدثت خلال السنوات الأربع الماضية في سورية.
وبتحليل هذه المقولة نجد أنها تفترض ابتداءً مسلّمة أساسية تقوم على أساس أن المشهد السوري يمكن اختزاله بنظام يحكم سيطرته على مفاصل الدولة، ويفرض سلطته على الإقليم والشعب معاً، وبالمقابل هناك معارضة تسعى للتغيير وإنهاء سيطرته.
قد تكون هذه المسلمة صحيحة في عام 2011، لكنها لم تعد كذلك بعده، فقد تحولت بنية النظام بشكل كامل، وفقد العناصر القانونية اللازمة لاعتباره نظام حكمٍ بالمعنى الحقيقي. وبشكل مدرسي بسيط، يعرفه طلاب السنة الثانية في كليات الحقوق والعلوم السياسية، فإن من أهم عناصر وجود السلطة بالمعنى القانوني هو احتكارها لقوة “القهر والجبر” داخل المجتمع، وقدرتها على فرض إرادتها الخالصة بالامتثال لأوامرها من ناحية، ومن ناحية ثانية توافر الشعور اللازم عند المحكومين بضرورة إطاعة الأوامر، وهو ما يعرف بقاعدة قيام السلطة على قاعدة الرضا (وهو ما يوازي في المعنى مفهوم المشروعية)، وذلك ضمن بنية متكاملة من التنظيم القانوني، بما يعني حصر استخدام عنصر القوة من خلال القنوات القانونية التي ارتضى المجتمع بها.
لو طبقنا هذه المبادئ الأساسية والبسيطة على “النظام” في دمشق لوجدنا أنها غائبة، فالنظام لا يحتكر عناصر القوة، بل تشاركه في ذلك ميليشيات أخرى، منها المحلي “الدفاع الوطني”، ومنها الأجنبي “حزب الله، الميليشيات العراقية والإيرانية”، وتلك جميعها لا تأتمر بأمر “النظام”، بل تأخذ أوامرها من جهة أخرى خارجية، وقد عبر حسن نصر الله في أكثر من مناسبة عن أن حزب الله يخوض معركته الخاصة في سورية، والتي يهدف من خلالها إلى تحقيق مصالح متعلقة به. هذا فضلاً عن انهيار كامل للبنية القانونية المؤسسة لاستخدام القوة داخل الإقليم، خصوصاً بعد أن فقد “النظام” سيطرته المطلقة على الإقليم السوري، والتي تشكل عنصراً مركزياً من عناصر قيام الدولة، وحتى في الجزء الذي ما زال “النظام” يسيطر عليه، فإن هذه السيطرة ليست كاملة بل تتم هي مشتركة مع قوى أخرى لا تدخل ضمن مؤسسات الدولة السورية.
الواقع اليوم يقول لنا إن “النظام السوري”، قانونياً، هو مجرد ميليشيا تقتطع جزءاً من الإقليم السوري، وتفرض سيطرتها عليه – بالتشارك مع ميليشيات أخرى – وفق منظومة قوة لا تستند إلى أي مفهوم من المفاهيم القانونية المؤسسة للدولة السورية.
هذه الميليشيا التي يمكن تسميتها بـ “ميليشيا بشار الأسد” ربما تكون هي الأكبر من حيث العدد والعدة والتنظيم، فضلاً عن تمتعها بعلاقات مع جهات دولية وإقليمية، لكن هذا الأمر لا يغير من طبيعتها في شيء، بسبب فقدانها لجميع العناصر القانونية التي تؤهلها لتمثيل الدولة السورية، حتى وإن حافظت على وجود ممثل لها في الأمم المتحدة، وهذا أمر يخضع للنقاش وتتحمل المعارضة جزءاً وافراً منه لعدم قدرتها في اللحظة التاريخية المناسبة على إيجاد الآليات اللازمة للحلول بجسد تمثيلي مؤقت محل “النظام”، وهو الأمر الذي كان محتمل الحدوث في بداية عام 2013.
إن بقاء المعارضة رهينة مقولاتها السابقة بضرورة رحيل “النظام” هو الشيء الوحيد اليوم الذي يعطي “النظام” شرعيته المفقودة باعتباره نظام حكم، فقد تجاوزت الحوادث التي وقعت في سورية منذ عام 2012 هذه المقولة التي باتت تشكل خطأ استراتيجياً وقانونياً ترتكبه المعارضة، جهلاً أو عمداً.
إن رؤية الوقائع الموجودة حالياً تقودنا إلى نتيجة وحيدة، وهي أن النظام لم يعد موجوداً باعتباره نظام حكم، فحرب التحالف الدولي ضد “الإرهاب” وفقدان السيطرة على أجزاء واسعة من الإقليم، ومشاركة عناصر أخرى للنظام في السيطرة واستخدام السلاح في الجزء الذي يتحكم به، جميع هذه الوقائع تؤكد على حقيقة واحدة، وهي تحوله من نظام حكم إلى مجرد ميليشيا.
إن تطبيق المبادئ القانونية والسياسية المجردة على “النظام” وأحواله، يقودنا إلى إعادة توصيفه باعتباره مجرد ميليشيا، مثل باقي الميليشيات التي تحكم أجزاء من الإقليم السوري، ولا سيما ميليشيا تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” التي باتت تتشارك مع “النظام” في كثير من عناصر وجودها، فهي مثله تقتطع جزءاً من الإقليم السوري وتحكمه بقوة السلاح وتقيم محاكمها وبنيتها الإدارية الخاصة بها، بل ربما يكون تنظيم الدولة متفوقاً على “النظام” من حيث احتكاره للسلاح داخل الجزء الذي يقتطعه.
هذه الوقائع تفضي بالضرورة تطوير خطاب المعارضة من خطاب ينادي برحيل “النظام”، وهو ما يعطيه شيئاً من الشرعية، إلى خطاب ينادي بضرورة تفكيك الميليشيات والبدء ببناء الدولة الوطنية القائمة على أساس إنتاج عقد وطني جديد يقوم على المواطنة، وهذا يحتاج إلى عقد مؤتمر وطني جامع على غرار المؤتمر السوري العام الذي عُقد في عام 1920 من القرن الماضي، وهذا ما ينادي به حزب الجمهورية.
لقد حققت الثورة السورية هدفها الأولي، أي تفكيك النظام، وآن الآوان، منذ زمن ليس بالقليل، للبدء بالكلام عن الهدف الأساسي للثورة، أي بناء الدولة الوطنية الحديثة التي تصون الحرية والكرامة الإنسانية. فالخروج من حالة الفوضى التي تعقب الثورات عادة، يتطلب من الجميع فهم هذه الحالة، ومواكبتها بطرح حلول تنسجم معها، وتتوافق مع مطالب الشعب السوري كما حدّدها في عام 2011.
بهذا المعنى، تصبح مقولة “المرحلة الانتقالية المشتركة مع النظام” مقولة سطحية سياسياً وقانونياً، فضلاً عن كونها تشكل إعادة توصيف لـ “ميليشيا بشار الأسد” باعتبارها نظام حكم، وهو الأمر الذي لا يتوافق مع معطيات الواقع الحالية.
لقد بات من الضروري، ليس البدء بخطاب بناء الدولة الوطنية فحسب، بل أيضاً العمل وفق أجندة سياسية واضحة لمستقبل سورية، والبدء بحركة ديبلوماسية مع الدول الفاعلة كافة تقوم على المطالبة بتوفير السبل اللازمة لتفكيك جميع الميليشيات التي تحول دون قيام الدولة الوطنية، ومنها “ميليشيا بشار” و”ميليشيا داعش” وسائر الميليشيات الوافدة، وهذا الأمر يحتاج بالدرجة الأولى إلى إنتاج ميثاق عمل وطني جامع، وليس الغرق في البحث عن حصص لهذا التيار أو ذاك من تيارات المعارضة، كما يحصل في القاهرة اليوم ضمن ما يسمى بحوار أطياف المعارضة السورية، وهو ما يعني أن المعارضة ما زالت تعيش في شهر نيسان من عام 2011، وعاجزة عن فهم مجمل التغيرات التي حدثت بعد ذلك.
*الرئيس التنفيذي لحزب الجمهورية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية