أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

خناقة حامية في موسكو.. خطيب بدلة*

لا يوجد كاتب عربي واحد لم يُعَانِ من الرقابة في بلده. ربما كانت لبنان هي الدولة العربية الوحيدة التي لم تعرف الرقابة في تاريخها الحديث.. ومعروف أن مدينة بيروت، بعد حرب 1967، قد أصبحت قِبْلة للكتاب العرب الهاربين من تسلط الأجهزة الرقابية والأمنية في بلادهم.. وكان كل كاتب تَمْنَعُ رقابةُ بلده نشرَ كتاب له يتأبط مخطوطته ويقول: أين أنت يا بيروت؟!

هناك حادثة طريفة جداً تعبر عن الحرية الفكرية غير المحدودة في لبنان ملخصُها أن الدكتور صادق جلال العظم نَشَرَ، سنة 1969، كتابه "نقد الفكر الديني" في بيروت، وحوكم لأجله بتهمة إثارة النعرات الطائفية، ثم جرى توقيفه على ذمة التحقيق في سجن الرمل ببيروت. 

أخبرني الدكتور صادق، أطال الله عمره، (في اتصال عبر السكايب أول أمس) أن التوقيف استمر عشرة أيام، وكان وزير الداخلية اللبناني آنذاك الزعيم كمال جنبلاط قد قرأ الكتاب، ثم زاره في السجن، وجلس يحاوره في محتوياته. وفي النتيجة أرسل جنبلاط مذكرة إلى الأمن العام بإخلاء سبيله! ولم يسمح بإعادته إلى الحدود السورية ليغادر لبنان- كما كانت ترغب بعض القوى المعارضة- بل أمر  بأن يعاد إلى منزله في بيروت، وحينما استكملت إجراءات المحاكمة صدر الحكم بتبرئة الكاتب والناشر والكتاب من التهم المنسوبة إليهم، وتضمنت حيثيات الحكم أن الكتاب لا يقوم على الكفر والتجديف والإلحاد وإنما هو نظرة فلسفية للدين!!

وفي النتيجة بقي الكتاب ممنوعاً في الدول العربية كلها عدا لبنان.

إن مدة التوقيف البالغة عشرة أيام، في الحقيقة، أثارت شفقتنا وابتسامنا نحن قاطني الدول الأمنية المعتادين على قانون الطوارئ والأحكام العرفية ومحاكم أمن الدولة التي أنجبت، في سورية مثلاً، أكثر من خمسين مواطناً يستطيعون أن ينظروا باستعلاء إلى المرحوم نيلسون مانديلا، باعتبار أنهم سُجنوا أكثر منه؛... ولكن أحداً لم يتحدث عنهم في الإعلام، وهذا سببه أن الدنيا، بالنسبة للمانديلات، حظوظ ومقامات!

ولنعد إلى المسألة الرقابية، فقد تحدث أستاذنا في فن النثر العلامة ابن الجوزي في كتابه المدهش "أخبار الحمقى والمغفلين" عن أمير أحمق ضاع له طائرٌ فأمر بإغلاق أبواب المدينة لئلا يتمكن الطائر من المغادرة! وهي حكاية تُذكرنا بحكاية شعبية عن حكيم محلي يلجأ إليه أهالي إحدى القرى في المسائل التي تحتاج إلى ذكاء خارق، وقد استدعي، ذات مرة، ليقدم النصح في مشهد ثور أراد أن يشرب من جوف جرة فخارية، فعلق رأسه داخلها. عاين الحكيم المشهد، وصفن، وفكر، ثم قال بثقة متناهية: اذبحوا الثور أولاً، ثم اكسروا الجرة لتستخرجوا رأسه منها!

في أواخر القرن العشرين بلغ عصرُ الاتصالات أوْجَهُ، وأمسى في مقدور الإنسان أن يرسل مئات الآلاف من الصفحات المكتوبة والصور والفيديوهات عبر الفاكس، أو الإميل، أو التليبرنتر، أو الماسينجر، وأصبح أفقر جهاز ساتلايت يحتوي على ألف محطة تلفزيونية وألف راديو، وأيقن الناس جميعاً بأن عصر الرقابة قد انتهى؛.. ولكن، مع ذلك، وبمجرد ما تسلم الفنان الراحل صباح عبيد نقابة الفنانين السورية، سنة 2006، سارع إلى إصدار قرار يقضي بمنع الفنانات اللبنانيات هيفا وروبي وأليسا من الغناء في سورية! لأنهن، بزعمه، يسببن تلوثاً سمعياً وبصرياً وأخلاقياً.. لم يفعل ذلك، رحمة الله عليه، إلا لأنه يعتقد أن المواطن السوري، بهذا، لم يعد بقادر على سماع هاتيك الفنانات، بعدما أغلق دونهن (أبواب سورية)! 
كنا، في تلك الأيام، نتندر على رقيب الصحف في زمان المملكة العثمانية الذي كان يُدعى (المكتوبجي).. وقد نقلنا عنه، بتصرف، حادثةً فريدة تنص على أنه، في شهر نوفمبر 1917، إبان ما عرف باسم الثورة البلشفية، تلقى سيلاً من التقارير الصحفية التي تتحدث عن الثورة الروسية، وكان واجبه يقضي بأن يطبق اللوائح الرقابية الموجودة في حوزته، والتي تمنع تداول كلمات كثيرة من قبيل: ثورة، شعب، حرية، اعتصام، جمهورية، أحزاب، رأي، جمعيات، مجتمع مدني، وجهة نظر، بلشفية، اشتراكية، شيوعية، إنسانية... فما كان منه إلا أن لخص الحالة بعبارة نشرتها الصحف العثمانية في اليوم التالي وهي: حصلت بالأمس خناقة حامية في موسكو!

أنا أرى أن تندرنا على تلك العقلية الرقابية قد فَقَدَ بهجته الآن، بعدما بايع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها الخليفة البغدادي!!.. فـ "مديرية العَسَّ واللص والحسبة" في بلاد خليفتنا لا شك أنها ستمنع، إضافة إلى الكلمات التي منعها المكتوبجي كلمتي: (خناقة)! و(حامية)!.. وأغلب الظن أنها ستمنع- كذلك- الصحفَ والمجلات والإنترنت ووسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، وكفى الله الدواعش شر الدفع والرقع والمنع...

*من كتاب "زمان الوصل"
(148)    هل أعجبتك المقالة (143)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي